الاثنين، 13 فبراير 2012

كتابات فى علوم القرآن 2 من 4

المفردات القرآنيـّة لغـة السـماء
بقلم / عدنان الرفاعى  2 

ولمّا كان القرآنُ الكريمُ تِبياناً لكلِّ شيء ، فهذا يقتضي أن مفاتيحَ مُسمّياتِ  الأسماءِ كلِّها في هذا الكون تحمِلُها المفرداتُ القرآنيّة .. ولمّا كان آدمُ عليه السلام في عالمِ ما وراء المادة والمكان والزمان قبل حُلولِ نفسِهِ في جسدِه ، قد علّمهُ اللهُ تعالى الأسماءَ كلّها ، فهذا يقتضي أن تكونُ المفرداتُ القرآنيّةُ علّمها اللهُ تعالى لآدمَ عليه السلام وهبطَ بِها إلى الأرض ..
.. وماهيّةُ القرآنِ الكريمِ كونَه الوحيد - من بين الكتب السماويّة - قولَ الله تعالى ، وكونَه يتعلّقُ مباشرةً بصفاتِ اللهِ تعالى ، وكونَهُ يحملُ مفاتيحَ أسرارِ الكون ، وكونَهُ معجزةً مستمرّةً حتى قيامِ الساعةِ ، وكونَهُ منهجَ هدايةٍ للبشريّةِ جمعاء ، وكونَهُ يحملُ عُمقَ التأويلِ الذي لا يعلمُهُ إلاّ اللهُ تعالى ... وكونَهُ ينفردُ – من بين الكتب السماويّة – بالتنزيلِ من عندِ اللهِ تعالى ، في حين يشتركُ مع الكتبِ السماويةِ الأخرى بالإنزالِ من عندِ اللهِ تعالى .. كلُّ ذلك يقتضي أن تكونَ كلماتُهُ فطريّةً مُوحاةً من الله تعالى ، علّمها لآدمَ عليه السلام قبل حُلولِ نفسِهِ في جسده ، في العالمِ الذي لا يحوي المتناقضات ، والذي ينتمي إليه القرآنُ الكريم ..
.. فتنزيلُ القرآنِ الكريمِ ( من الفعل نَزَّلَ ) من عندِ اللهِ تعالى ، هو انتقالُهُ إلى عالَمِنا دونَ أيِّ تغييرٍ وارتسامٍ بمادّةِ هذا العالم ، وبالتالي فمفرداتُهُ هي ذاتُها نَزَلتْ من السماء ، وَجُمَلُهُ هي ذاتُها نزلتْ من السماء ، فالقرآنُ الكريمُ ليس معانيَ من اللهِ تعالى صاغَتْها المخلوقاتُ بقالبٍ لُغويٍّ كالكتبِ السماويّةِ السابقة ، إنّما هو معانٍ من الله تعالى صاغها الله تعالى بقالبٍ لغويٍّ ..
.. وكلُّ ذلك يُبيّنُهُ لنا القرآنُ الكريم ، من خلالِ تفرُّدِ القرآنِ الكريمِ عن غيرِهِ من الكتبِ الأخرى بكونِه قولَ الله تعالى ، أي صياغةً لُغويّةً من عندِ الله تعالى .. وبتفرُّدِه أيضاً عن غيرِهِ من الكتبِ السماويّةِ بكونِهِ تنزيلَ اللهِ تعالى ، أي نزولاً كما هو تماماً دونَ أيِ تغييرٍ أو تبديل ، فهو كلامُ اللهِ تعالى ، وأنزلَهُ الله تعالى ، شأنُهُ بذلك شأنُ الكتبِ السماويّةِ الأخرى ، ولكنَّهُ – أيضاً – قولُ اللهِ تعالى وتنزيلُهُ ، أي تنزيلُ الصياغةِ ذاتِها دون أيِّ تغييرٍ أو تبديل ..
.. ولذلك فكلُّ المفرداتِ القرآنيّةِ تصفُ الأمورَ والأشياءَ – على الحقيقةِ – وصفاً مُطلقاً ، وما نتوهَّمُهُ من مجازٍ لبعضِ مُفرداتِه ناتجٌ عن كونِ تصوّراتِنا لا تخرجُ عن إطارِ الصورِ الحسيّةِ التي اكتسبناها من عالمِ الخلق ( عالم المادّة والمكان والزمان ) ، وعن كونِنا جاهلينَ لحقيقةِ الأمورِ في ما وراء عالمِ الخلقِ الذي نعيشُ فيه ..
.. فحينما نقرأُ قولَ الله تعالى .. ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) ( الإسراء : 29 ) .. نَحْسَبُ أنَّ كلمةَ  ( يَدكَ ) في هذه الآيةِ الكريمةِ قد اُستخدِمَتْ على سبيلِ المجاز .. فالمعنى الحقيقيُّ لليدِ لا نستطيعُ تصوُّرَهُ إلاّ لليدِ الحسيّةِ المعروفة ، ولذلك نُسقِطُ تصوّراتِنا الحسيّةَ هذه على المعنى الحقيقيِّ لهذهِ الكلمةِ فنزعُمُ أنّها اُستخدِمَت على المجاز ..
.. لكنْ .. إذا أدركنا أنَّ أنفُسَنا جَوهرٌ معنويٌّ موجودٌ قبلَ خلقِ أجسادِنا ، وقبلَ حُلولِ هذه الأنفسِ في تلكَ الأجساد .. وإذا أدركنا أنَّ هذه الأنفُسَ لها صُوَرُها الخاصَّةُ بها قبلَ خلقِ أجسادِنا ، حيثُ يقولُ تعالى .. ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) ( الأعراف : 11 ) .. وإذا أدركنا أنَّ هذه الأجسادَ الحاملةَ لأنفُسِنا مُجرَّدُ أوعيةٍ مادّيّةٍ لارتسامِ صُوَرِ أنفُسِنا في عالمِ المادّةِ والمكانِ والزمان .. حين ذلك .. سندركُ أنَّ قَوْلَهُ تعالى ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ) ، أمرٌ إلهيٌّ يُصوِّرُ تصويراً مُطلقاً على الحقيقةِ وليس على المجاز ، ما يُريدُهُ اللهُ تعالى لِحركةِ النفسِ المُجرَّدةِ في توجيهِها لما يقعُ تحت سيطرتِها ، كي تبتعدَ عن البُلِ والإسراف .. فأداةُ القوّةِ والسيطرةِ للنفسِ هي يدُ هذه النفس ، والتي تتجسَّدُ في عالمِ المادّةِ والحسِّ بيدٍ حسّيةٍ هي اليدُ التي نعرفُها .. فلمّا كان السياقُ القرآنيُّ يتعلّقُ بقيمٍ معنويّةٍ تتأرجحُ بين البخلِ والإسراف ، وتتعلَّقُ بجوهرِ نفسِ الإنسانِ ، فلا بُدَّ أنْ تتعلَّقَ دلالاتُ كلمةِ ( يَدكَ ) في هذه الآيةِ الكريمة بالنفسِ المجرّدةِ ، وليس بارتسامِها المادّي في الجسد ..
.. وقد وردَ هذا المعنى الحقيقيُّ لليدِ في قولِهِ تعالى ..
( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ) ( ص : 45 – 47 ) ..
ولكن حينما يكونُ السياقُ القرآنيُّ متعلِّقاً بمسائلَ من عالمِ الخلق ، فإنَّ هذه الكلمةَ تصفُ على الحقيقةِ أيضاً اليدَ الماديّةَ التي هي عضوٌ من الجسدِ ، حيث الجسدُ صورةُ ارتسامِ وعاءِ النفسِ في عالمِ المادّةِ والمكانِ والزمان .. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة : 6 ) .. فالمعنى المُجرَّدُ لكلمةِ اليدِ هو ذاتُهُ ، ولكنَّ الذي يتغيّرُ هُوُ استخدامُها في العوالمِ المختلفة ، فالاختلافُ يعودُ إلى تمايزِ تلكَ العوالمِ عن بعضِها .. ولذلك فهذه الكلمةُ تحملُ دلالاتٍ للمَعْنَيَين ، المُجرَّد والحسّي ، بآنٍ واحد .. يقولُ تعالى .. ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ) ( الفتح : 24 ) ..
.. وهكذا .. فعدمُ إدراكِ حقيقةِ فطريّةِ المُفردةِ القرآنيّةِ ، وبأنّها من صياغةِ اللهِ تعالى ، لتحملَ معنىً مُجرّداً لهُ ارتساماتُهُ في العوالمِ المُختلفةِ ، وعدمُ إعادةِ المعنى والدلالات التي تحملُها الكلمةُ القرآنيّةُ إلى حقيقةِ العالَمِ الذي تنتمي إليه المسألةُ التي تصفُها وتسمّيها المفردةُ القرآنيّةُ .. كلُّ ذلك أدّى إلى أوهامِ التجسيدِ عندَ بعضِهم ، وإلى أوهامِ المجازِ عندَ بعضِهِم الآخر ..
.. فحينما نقرأُ قولَ الله تعالى .. ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) ( طـه : 5 ) .. علينا أنْ نعلمَ أنَّ  الاستواءَ هنا يُحمَلُ على فاعلِه ، وهو اللهُ تعالى ، الذي هو فوقَ عالمي الخلقِ والأمرِ على حدٍّ سواء .. ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ( الأعراف : 54 ) .. وأيُّ تصورٍ لهذا الاستواءِ بمعاييرِ عالَمِنا الماديِّ الحسيِّ ، هو تجسيدٌ لله تعالى ، ومحاولةٌ لفرضِ معاييرِ عالَمِنا الماديِّ على الذات الإلهيّة .. فالفارقُ بين استواءِ اللهِ تعالى على العرش ، وبين استواءِ سفينةِ نوحٍ – على سبيل المثال – يُوازي تماماً الفارقَ بين الذاتِ الإلهيّة وبين مادةِ سفينةِ نوح .. ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ( هود : 44 ) .. مع العلمِ أنّ المعنى المُجرّدَ لكلمةِ ( اسْتَوَى ) ، هو ذاتُهُ ولكنَّ الذي يتغيّرُ في دلالاتِ هذه الكلمةِ القرآنيّةِ هو الذاتُ التي تصفُها ، والعالمُ الذي تنتمي إليه هذه الذات ، أي استخدامُ هذه الكلمةِ في الجملةِ القرآنيّة .. وكذلك الأمرُ بالنسبةِ لكلمةِ ( الْعَرْشِ ) ، فالمعنى المُجَرَّدُ لهذه الكلمةِ هو ذاتُهُ ، ولكنَّ الفارقَ بين العرشِ الذي استوى اللهُ تعالى عليه من جهةٍ ، وبين العرشِ الذي رفعَ يوسفُ عليه السلام أبويه عليه .. ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) ( يوسف : 100 ) ، وعرشِ ملكةِ سبأ .. ( قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) ( النمل : 38 ) .. هذا الفارقُ هو ذاتُهُ الفارقُ بين اللهِ تعالى من جهةٍ ، وبين يوسُفَ وملكةِ سبأٍ والعالمِ الذي ينتميان إليه من جهةٍ أُخرى ..
فالكلمةُ القرآنيّةُ بحقيقتِها المُجَرَّدةِ عن العالمِ الذي ينتمي إليه الموصوفُ بها ، دلالاتُها ثابتةٌ مُطلقةٌ مٌتعلّقةٌ بعلمِ الله تعالى المُطلقِ المحيطِ بحقيقةِ الموصوفِ .. ودلالاتُها في كُلِّ عالمٍ من عوالمِ الوجودِ تصفُ وصفاً مُطلقاً حقيقةَ إدراكنا لارتسامِ صفاتِ الموصوفِ بِها في ذلك العالم .. وكلُّ ذلك ضمنَ صياغةٍ قرآنيّةٍ تحملُ من الدلالاتِ والمعاني ما يُناسبُ إدراكَ الأجيالِ المتلاحقةِ حتى قيامِ الساعة ..
.. وهكذا .. تعلَّمَ آدمُ عليه السلام المفرداتِ القرآنيّةَ التي تحملُ بظاهرِها وباطِنها الأسماءَ كُلَّها ،  وَهَبَط آدمُ عليه السلام بِها إلى الأرض ، فَكانتْ هذه الكلماتُ الفطريّةُ اللغةَ الأولى للإنسانيّة .. ومعَ الزمنِ بدأتْ لغاتُ البشرِ تتفرّعُ وتتوسّعُ باتجاهاتٍ مختلفة ، فحافظتْ بعضُ اللغاتِ على بعضِ المفرداتِ الفطريّة ، وهذا ما يُفسِّرُ وجودَ بعضِ المفرداتِ القرآنيّةِ في لغاتٍ أُخرى .. ومعَ الزمنِ قلَّ استعمالُ بعضِ هذه المفرداتِ الفطريّةِ عند قومِ العربِ الذين احتوتْ لغتُهُم القوميّةُ جميعَ المفرداتِ الفطريّةِ ، وهذا ما يُفسِّرُ قولَ بعضِ أفرادِ الأجيالِ الأُولى بأنّ بعضَ الكلماتِ القرآنيّةِ ليستْ عربيّة ..
إنّ كلَّ اللغاتِ العالميّةِ ( ما عدا المفردات القرآنيّة ) هي لغاتٌ وضعيّةٌ تفرّعتْ وابتعدتْ عن اللغةِ الفطريّةِ التي نزلَ بِها آدمُ عليه السلام .. وتقتربُ هذه اللغاتُ من الفطرةِ ، وتبتعدُ عنها ، بمقدارِ اقترابِها وابتعادِها عن اللغةِ الفطريّةِ التي علّمها اللهُ تعالى لآدمَ عليه السلام ..
.. وهكذا فإنّ اللغةَ الفطريّةَ التي تحمل مفاتيح التسمية الحق لكلِّ ما هو موجود في هذا الكون ، انحصرت داخل إطار لغة حافظت عليها أمّة فطريّة ، استمرّت بفطرتها منذُ آدمَ عليه السلام إلى محمّد ( ص ) .. لقد وضعت هذه الأمّة الكثير من المسمّيات الوضعيّة داخل لغتها ، لكنّها حافظت على المفردات التي نزل بها آدم عليه السلام ..
وَحَسِبَ بعضُهم أنّ بعض المفردات القرآنيّة التي قلّ استعمالها عند العرب وانتقلت إلى لغات أُخرى ، أو حافظت عليها لغات أخرى .. حسبها ليست عربيّة بالمعنى القومي .. مع أنّها عربيّة بالمعنى الفطري الموحى من الله تعالى ، واستعمالها القومي لا يلغي فطريّتها ، لأنّها أصلاّ ليست وضعيّة من قبل البشر..
ومن المعلومِ أنَّ صفةَ الأميّةِ هي صفةُ الفطرةِ وعدمِ التأثّر بالمجتمعات المحيطة ، وتعني المحافظة على الفطرة .. وبالتالي فإنَّ أُميّة اللغة تصف تماماً مجتمع الجزيرة العربيّة المعزول حضاريّاً - بشكل نسبي - عن الأُمم الأُخرى ، والذي لا يملك ما يفتخر به إلاّ اللغة .. فهو مجتمعٌ أُميٌّ فطري تحمل لغتُه اللغةَ الفطريّة منذ آدم عليه السلام إلى محمّد ( ص ) ، بل إلى قيام الساعة ، إضافة إلى ما أضافه ويضيفه هذا المجتمع من تسميات للمسائل عبر تاريخه الحضاري ..
وللحديث بقيه ...