السبت، 10 مايو 2014

المفردات القرآنيـّة بقلم/ عدنان الرفاعى





المفردات القرآنيـّة  بقلم/ عدنان الرفاعى  



كتابات فى علوم القرآن
نشر الكاتب والمفكر الاسلامى عدنان الرفاعى عدة مقالات رائعه تعبر عن بحث دقيق فى علوم القرآن.... وللحق أقول , لم يتطرق باحث على مر السنين الى ما وصل اليه هذا الباحث الفذ من القاء الضوء على ماهية وحقيقه كلام الله وقوله للبشر.  الأبحاث فى حد ذاتها تحتاج الى مناقشه مجتمعيه موسعه, وحوارات كثيره لأن المطروح يقنع كل من له عقل ويبحث عن الحقيقه, أما الموروث العميق أحيانا والسفيه أحيناً أخرى لا يعبر عن حقيقه المراد بقول الله لنا كبشر.
طارق عبد الحميد

المفردات القرآنيـّة لغـة السـماء

المفردةُ اللغويّةُ هي الوعاءُ الحاملُ للدلالاتِ التي وُضِعتْ هذه المفردةُ من أجلِها .. ولذلك فجميعُ المفرداتِ اللغويّةِ الوضعيّةِ متأخِّرةٌ – في وضعِها – عن المعاني والدلالات التي تحملُها .. فالمعاني والحقائقُ والمشاعرُ تكونُ موجودةً ، وبعدَ ذلك يُوضعُ اللفظُ لها ..
.. نحن البشرَ عندما نكتشف شيئاً جديداً في هذا الكون لم نعرفْهُ مسبقاً، وَحينما نصنعُ شيئاً ما، ونريد أن نسمّي تلك الأشياءَ التي لم نعرفْ لها مسمّياتٍ مسبقة ، فإنّ التسمياتِ التي نُطلقها على الأشياءِ تتصفُ بالصفاتِ التالية :
1 - ترتبطُ هذه التسمياتُ بدرجةِ إدراكنا لماهيّةِ المسمّيات .. فالتسميةُ بمقدارِ ما تصوّرُ حقيقةَ الشيءِ ، بمقدارِ ما تكونُ قريبةً من وصفهِ الوصفَ الحق ، وبالتالي فالتسميةُ الحقُّ للشيء والخاليةُ من كلّ عيبٍ ونقص ، تقتضي إدراكاً كاملاً لماهيّةِ هذا الشيء ، فبمقدارِ نقصِ إدراكِنا لحقيقةِ الشيء الذي نريدُ تسميتَهُ ، تنقصُ تسميتُنا له عن مستوى التسميةِ الحق ..
2 - ترتبطُ تسميتُنا للشيءِ بقدرتِنا على وصفِ ما أدركنا من ماهيّة هذا الشيء ، وصياغةِ هذا الوصفِ في قالبٍ لُغوي .. وبالتالي بمقدارِ ما تكونُ قدرتُنا على وصفِ ما أدركناه أكبر ، بمقدارِ ما تكونُ تسميتُنا لهذا الشيء أقربَ إلى التسميةِ الحق ..
3 - ترتبطُ تسميتُنا للشيءِ بدرجة إدراكِنا لحيثيّاتِ تغيّرِ ماهيّةِ هذا الشيءِ مع الزمن ، وبدرجةِ إدراكِنا لحيثيّاتِ إدراكِ الأجيالِ المتلاحقةِ لهذا التغيّر .. وبالتالي تكونُ تسميتُنا للشيءِ أقربَ إلى التسميةِ الحقِّ ، وإلى وصفِ حقيقةِ الشيءِ للأجيالِ المتلاحقةِ ، بمقدارِ علمِنا بتغيّرِ ماهيّةِ هذا الشيءِ مع الزمن ، وبمقدارِ علمِنا بتغيّرِ إدراكِ الأجيالِ المتلاحقةِ لماهيّةِ هذا الشيء ..
وما أكثرَ الأسماءَ التي نطلقُها على الأشياء ، ثمّ نكتشفُ بعدَ فترةٍ أنّها تصفُ نقيضَ ما تَحمِلُه هذه الأشياءُ من صفات ، أو على الأقل لا تصفُ الأشياءَ وصفاً سليماً ، وذلك لأنّنا لم نكنْ نعلمُ حقيقةَ هذه الأشياء ..
نحن البشرَ نُسمِّي الأشياءَ كما نريدُ غيرَ مهتمّين بارتقاءِ تسميتِنا إلى مستوى التسميةِ الحق ، ولو كُنّا كالملائكةِ في اتِّباعنا للحق ، وسنحاسبُ على تسميتِنا للأشياء ، إذا ابتعدتْ تسميتُنا عن التسميةِ الحق ، لما تجرّأنا على تسميةِ شيءٍ واحد .. هذه الحقيقةُ بيّنها اللهُ تعالى في القرآنِ الكريم بشكلٍ واضحٍ جليٍّ حينما صوّرَ لنا طلبَه من الملائكةِ بأن يُنبئوه بأسماءِ الأشياء..
( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) (البقرة : 32 ) ..
         حينما عرضَ اللهُ تعالى الأشياءَ على الملائكة وطلب منهم أن يُنبئوه بأسمائِها ، لم تستطعْ الملائكةُ أنْ تُنبىءَ بالأسماءِ الحقِّ للأشياء ، لأنّها لم تستطعْ أن تعلمَ العِلمَ الحقَّ لماهيّةِ هذه الأشياء ، لذلك قالت الملائكةُ .. ( سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ) .. ولو كان الأمرُ مُجرّدَ تسميةٍ كما نُسمّي نحن الأشياءَ  دونَ الارتقاءِ إلى التسميةِ الحق ، لَمَا كانتْ هناك مشكلةٌ أمامَ الملائكةِ ، ولسمّتها كما نسمّي نحنُ الأشياء ، ولكنَّ التسميةَ المطلوبةَ هي التسميةُ الحقُّ ، التي تصفُ وصفاً تامّاً حقائقَ الأشياء ..
ولمَّا كانتْ نفوسُنا – في عالمِ الدنيا – محكومةً بقوانينِ عالمِ الزمان والمكان الذي تنتمي إليه أجسادُنا .. وبالتالي كانت تصوُّراتُنا محكومةً للصورِ الحسيّةِ التي نكتسبُها في حياتِنا من عالمِ الأشياءِ المحيطِ بنا .. فإنَّ كُلَّ القوالبِ اللغويّةِ التي نستطيعُ وضعَها كأوعيةٍ حاملةٍ للمعاني والمشاعرِ التي تجولُ في أنفسِنا ، مَسبوكةٌ من جزئيّاتِ عالمِ المادّةِ والحسِّ الذي اكتسبنا منه كُلَّ صُورِنا الحسيّةِ تلك ..
لذلك نرى أنّنا نستخدمُ بعضَ الألفاظِ التي وضعناها ، في غيرِ المعنى الذي وُضِعَت له  فما بين المعنى الذي وُضعت له ، والمعنى الذي نستخدمُ تلك الألفاظَ له ، مُجرَّدُ علاقةٍ بينهما ، وهي ذاتُها العلاقة التي نتصوَّرُها رابطةً بين المعاني المُجرَّدةِ عن عالم الحسِّ والمادّةِ في نفوسنا ، وبين ما نتصوّرُهُ تجسيداً لها في عالمِ المادّة .. وهذا ما يُسمى بالمجاز

.. وهكذا فالألفاظُ الوضعيّةُ ، نستخدمُها إمّا على الحقيقةِ ، حينما نستعملُها في المعنى الذي وُضِعَت له ، وذلك في تعبيرِنا عن موجوداتِ عالمِ الخلق ، الذي تمّت صياغةُ تلكَ الألفاظِ من تفاعلِ نفوسِنا مع عالمِه .. وإمّا على المجاز حينما نستخدمُها في غيرِ ما وُضِعَتْ له ، وذلك في تعبيرِنا عن معانٍ ودلالاتٍ معنويّةٍ لا تنتمي إلى موجوداتِ عالمِ الخلق

فحينما نقولُ لإنسانٍ : يَدُكَ طويلةٌ .. فإنّنا لا نعني على الحقيقةِ طولَ يدِهِ الحسيّةِ .. ونعني على المجازِ كِبَرَ وقوّةَ سيطرتِهِ على الأمورِ، وسهولةَ وصولِه إلى مُرادِه .. فحقيقةُ اليدِ بالنسبةِ لنا في عالمِ الخلقِ، هي اليدُ المعروفةُ من دمٍ ولحمٍ وعظم .. بينما قُدرةُ الإنسان على تناوُلِهِ للأمورِ مسألةٌ نتصوّرُها بأذهاننا ، ولا نستطيعُ أن نُجسِّدَها بشيءٍ من أشياءِ عالمِ الخلق .. وهكذا فالمجازُ هو الاستعمالُ المعنويُّ لهذه الكلمةِ ، والحقيقةُ هي استعمالُها في التعبيرِ عن الحيثيّات الماديّة التي تنتمي إلى عالمِ الخلقِ الذي فيه تمّت صياغةُ لفظةِ اليد ..
.. وهكذا .. لا يمكنُ لألفاظٍ وضعيّةٍ أنْ تَتَّسِعَ – على الحقيقةِ – لدلالاتٍ أكثرَ من سعةِ علمِ واضِعها ، وذلك في تسميةِ كائناتِ عالمِ الخلق .. ولا يُمكنُها أبداً تصِفَ موجوداتِ عالمِ الأمر ، إلاّ على سبيلِ المجازِ ، ومن منظارِ علمِ واضعِ تلك الألفاظ ..
.. وقد أشارَ القرآنُ الكريمُ إلى مسألةِ تسميةِ البشرِ للأشياءِ بأسماءٍ ما أنزلَ اللهُ تعالى بها من سلطان ، فكانت هذه الأسماءُ بعيدةً كلَّ البعدِ عن حقيقةِ الأشياء المُسمّاة

 ( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى )  ( النجم : 23 ) ..

وإضافةً إلى أنّ تسميتَنا للأمورِ والأشياءِ ناقصةٌ عن التسميةِ الحق ، بسببِ علمِنا الناقصِ عن العلمِ الكاملِ بِحقيقةِ هذه الأشياء ، فإنّ هذه التسميةَ ذاتُ خصوصيّةٍ فرديّةٍ وقوميّة ، فقد تختلفُ تسميةُ الشيءِ ذاتِه من فردٍ لآخر ، ومن أمّةٍ لأُخرى ، حسبَ المناظيرِ المختلفةِ التي تنظرُ منها الأممُ وأفرادُها إلى هذا الشيء ، وحسبَ درجاتِ علمِهِم بماهيّتِهِ عبرَ الأزمنة ، وحسبَ قُدُرَاتِهم المختلفةِ على الصياغة ..
ولمّا كانت حقيقةُ الأمورِ والأشياءِ ، فوقَ الرؤى المختلفةِ التي تنظرُ منها المخلوقاتُ إلى هذه الأمورِ والأشياء ، ولمّا كانتْ حقيقةُ الأمورِ والأشياءِ لا يعلمُها أحدٌ كعِلمِ خالقِها جلّ وعلا ، ولا يستطيعُ أحدٌ غيرُ اللهِ تعالى ترجمةَ هذا العلمِ المطلقِ إلى صياغةٍ مطلقةٍ تُصوّر تصويراً مُطلقاً حقيقة هذه الأمورِ والأشياء ، فإنَّ التسميةَ الحقَّ والتي تصفُ وصفاً مطلقاً حقيقةَ المُسمّى لا تكون إلاّ منَ اللهِ تعالى ، فارتباطُ الذواتِ المسمّاةِ من اللهِ تعالى بأسمائِها ، يماثلُ تماماً ارتباطَ المادّةِ بصورتِها ..
فحتى تكونَ المُفرداتُ القرآنيّةُ تِبياناً لكلِّ شيءٍ ، وكاملةً ومطابقةً مطابقةً تامّةً للمعنى ، لا بُدَّ أن يكونَ صائغُها ، فوقَ عالمي الخلقِ والأمرِ ، على حدٍّ سواء ..
فلمّا كانت الكلمةُ المقولةُ الوعاءَ الذي يحوي المعنى ، فإنَّ التسميةَ المُطلقةَ تقتضي عِلماً مُطلقاً في المعنى ( الكلام ) ، وعِلماً مُطلقاً في الوعاءِ المَصوغِ لاحتواءِ المعنى ( القول) .. وأيُّ ابتعادٍ عن المطلقِ في المعنى أو في الوعاء ، تَفْقِدُ التسميةُ مُطلقَها ..
 ولمّا كان القرآنُ الكريمُ تِبياناً لكلِّ شيءٍ كما يؤكِّد مُنَزِّلُهُ جلّ وعلا ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) ( النحل :  89 ) فهذا يقتضي أنْ تكونَ الأسماءُ الحقُّ التي علَّمَها اللهُ تعالى لآدمَ من جملةِ الأشياء التي نزلَ القرآنُ الكريم تِبياناً لها ، حيث نزل تِبياناً لكلِّ شيءٍ ..
ولمّا كان القرآنُ الكريمُ تِبياناً لكلِّ شيء ، فهذا يقتضي أن مفاتيحَ مُسمّياتِ  الأسماءِ كلِّها في هذا الكون تحمِلُها المفرداتُ القرآنيّة .. ولمّا كان آدمُ عليه السلام في عالمِ ما وراء المادة والمكان والزمان قبل حُلولِ نفسِهِ في جسدِه ، قد علّمهُ اللهُ تعالى الأسماءَ كلّها ، فهذا يقتضي أن تكونُ المفرداتُ القرآنيّةُ علّمها اللهُ تعالى لآدمَ عليه السلام وهبطَ بِها إلى الأرض.

وماهيّةُ القرآنِ الكريمِ كونَه الوحيد - من بين الكتب السماويّة - قولَ الله تعالى ، وكونَه يتعلّقُ مباشرةً بصفاتِ اللهِ تعالى ، وكونَهُ يحملُ مفاتيحَ أسرارِ الكون ، وكونَهُ معجزةً مستمرّةً حتى قيامِ الساعةِ ، وكونَهُ منهجَ هدايةٍ للبشريّةِ جمعاء ، وكونَهُ يحملُ عُمقَ التأويلِ الذي لا يعلمُهُ إلاّ اللهُ تعالى ... وكونَهُ ينفردُ – من بين الكتب السماويّة – بالتنزيلِ من عندِ اللهِ تعالى ، في حين يشتركُ مع الكتبِ السماويةِ الأخرى بالإنزالِ من عندِ اللهِ تعالى .. كلُّ ذلك يقتضي أن تكونَ كلماتُهُ فطريّةً مُوحاةً من الله تعالى ، علّمها لآدمَ عليه السلام قبل حُلولِ نفسِهِ في جسده ، في العالمِ الذي لا يحوي المتناقضات ، والذي ينتمي إليه القرآنُ الكريم ..
فتنزيلُ القرآنِ الكريمِ ( من الفعل نَزَّلَ ) من عندِ اللهِ تعالى ، هو انتقالُهُ إلى عالَمِنا دونَ أيِّ تغييرٍ وارتسامٍ بمادّةِ هذا العالم ، وبالتالي فمفرداتُهُ هي ذاتُها نَزَلتْ من السماء ، وَجُمَلُهُ هي ذاتُها نزلتْ من السماء ، فالقرآنُ الكريمُ ليس معانيَ من اللهِ تعالى صاغَتْها المخلوقاتُ بقالبٍ لُغويٍّ كالكتبِ السماويّةِ السابقة ، إنّما هو معانٍ من الله تعالى صاغها الله تعالى بقالبٍ لغويٍّ ..
وكلُّ ذلك يُبيّنُهُ لنا القرآنُ الكريم ، من خلالِ تفرُّدِ القرآنِ الكريمِ عن غيرِهِ من الكتبِ الأخرى بكونِه قولَ الله تعالى ، أي صياغةً لُغويّةً من عندِ الله تعالى .. وبتفرُّدِه أيضاً عن غيرِهِ من الكتبِ السماويّةِ بكونِهِ تنزيلَ اللهِ تعالى ، أي نزولاً كما هو تماماً دونَ أيِ تغييرٍ أو تبديل ، فهو كلامُ اللهِ تعالى ، وأنزلَهُ الله تعالى ، شأنُهُ بذلك شأنُ الكتبِ السماويّةِ الأخرى ، ولكنَّهُ – أيضاً – قولُ اللهِ تعالى وتنزيلُهُ ، أي تنزيلُ الصياغةِ ذاتِها دون أيِّ تغييرٍ أو تبديل
.. ولذلك فكلُّ المفرداتِ القرآنيّةِ تصفُ الأمورَ والأشياءَ – على الحقيقةِ – وصفاً مُطلقاً ، وما نتوهَّمُهُ من مجازٍ لبعضِ مُفرداتِه ناتجٌ عن كونِ تصوّراتِنا لا تخرجُ عن إطارِ الصورِ الحسيّةِ التي اكتسبناها من عالمِ الخلق ( عالم المادّة والمكان والزمان ) ، وعن كونِنا جاهلينَ لحقيقةِ الأمورِ في ما وراء عالمِ الخلقِ الذي نعيشُ فيه ..
.. فحينما نقرأُ قولَ الله تعالى .. ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) ( الإسراء : 29 ) .. نَحْسَبُ أنَّ كلمةَ  ( يَدكَ ) في هذه الآيةِ الكريمةِ قد اُستخدِمَتْ على سبيلِ المجاز .. فالمعنى الحقيقيُّ لليدِ لا نستطيعُ تصوُّرَهُ إلاّ لليدِ الحسيّةِ المعروفة ، ولذلك نُسقِطُ تصوّراتِنا الحسيّةَ هذه على المعنى الحقيقيِّ لهذهِ الكلمةِ فنزعُمُ أنّها اُستخدِمَت على المجاز ..
.. لكنْ .. إذا أدركنا أنَّ أنفُسَنا جَوهرٌ معنويٌّ موجودٌ قبلَ خلقِ أجسادِنا ، وقبلَ حُلولِ هذه الأنفسِ في تلكَ الأجساد .. وإذا أدركنا أنَّ هذه الأنفُسَ لها صُوَرُها الخاصَّةُ بها قبلَ خلقِ أجسادِنا، حيثُ يقولُ تعالى .. ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) ( الأعراف : 11 ) .. وإذا أدركنا أنَّ هذه الأجسادَ الحاملةَ لأنفُسِنا مُجرَّدُ أوعيةٍ مادّيّةٍ لارتسامِ صُوَرِ أنفُسِنا في عالمِ المادّةِ والمكانِ والزمان .. حين ذلك .. سندركُ أنَّ قَوْلَهُ تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ) أمرٌ إلهيٌّ يُصوِّرُ تصويراً مُطلقاً على الحقيقةِ وليس على المجاز ، ما يُريدُهُ اللهُ تعالى لِحركةِ النفسِ المُجرَّدةِ في توجيهِها لما يقعُ تحت سيطرتِها، كي تبتعدَ عن الغُُلِ والإسراف .. فأداةُ القوّةِ والسيطرةِ للنفسِ هي يدُ هذه النفس، والتي تتجسَّدُ في عالمِ المادّةِ والحسِّ بيدٍ حسّيةٍ هي اليدُ التي نعرفُها .. فلمّا كان السياقُ القرآنيُّ يتعلّقُ بقيمٍ معنويّةٍ تتأرجحُ بين البخلِ والإسراف، وتتعلَّقُ بجوهرِ نفسِ الإنسانِ ، فلا بُدَّ أنْ تتعلَّقَ دلالاتُ كلمةِ ( يَدكَ ) في هذه الآيةِ الكريمة بالنفسِ المجرّدةِ ، وليس بارتسامِها المادّي في الجسد ..
.. وقد وردَ هذا المعنى الحقيقيُّ لليدِ في قولِهِ تعالى ..
( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ) ( سورة ص  ) ..
ولكن حينما يكونُ السياقُ القرآنيُّ متعلِّقاً بمسائلَ من عالمِ الخلق ، فإنَّ هذه الكلمةَ تصفُ على الحقيقةِ أيضاً اليدَ الماديّةَ التي هي عضوٌ من الجسدِ ، حيث الجسدُ صورةُ ارتسامِ وعاءِ النفسِ في عالمِ المادّةِ والمكانِ والزمان .. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة : 6 ) .. فالمعنى المُجرَّدُ لكلمةِ اليدِ هو ذاتُهُ ، ولكنَّ الذي يتغيّرُ هُوُ استخدامُها في العوالمِ المختلفة، فالاختلافُ يعودُ إلى تمايزِ تلكَ العوالمِ عن بعضِها .. ولذلك فهذه الكلمةُ تحملُ دلالاتٍ للمَعْنَيَين، المُجرَّد والحسّي، بآنٍ واحد، يقولُ تعالى ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ) ( الفتح : 24 )
وهكذا، فعدمُ إدراكِ حقيقةِ فطريّةِ المُفردةِ القرآنيّةِ، وبأنّها من صياغةِ اللهِ تعالى ، لتحملَ معنىً مُجرّداً لهُ ارتساماتُهُ في العوالمِ المُختلفةِ ، وعدمُ إعادةِ المعنى والدلالات التي تحملُها الكلمةُ القرآنيّةُ إلى حقيقةِ العالَمِ الذي تنتمي إليه المسألةُ التي تصفُها وتسمّيها المفردةُ القرآنيّةُ .. كلُّ ذلك أدّى إلى أوهامِ التجسيدِ عندَ بعضِهم ، وإلى أوهامِ المجازِ عندَ بعضِهِم الآخر ..
فحينما نقرأُ قولَ الله تعالى .. ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) ( طـه : 5 ) .. علينا أنْ نعلمَ أنَّ  الاستواءَ هنا يُحمَلُ على فاعلِه ، وهو اللهُ تعالى ، الذي هو فوقَ عالمي الخلقِ والأمرِ على حدٍّ سواء ..... ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ( الأعراف : 54 ) .. وأيُّ تصورٍ لهذا الاستواءِ بمعاييرِ عالَمِنا الماديِّ الحسيِّ ، هو تجسيدٌ لله تعالى ، ومحاولةٌ لفرضِ معاييرِ عالَمِنا الماديِّ على الذات الإلهيّة .. فالفارقُ بين استواءِ اللهِ تعالى على العرش ، وبين استواءِ سفينةِ نوحٍ – على سبيل المثال – يُوازي تماماً الفارقَ بين الذاتِ الإلهيّة وبين مادةِ سفينةِ نوح .. ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ( هود : 44 ) .. مع العلمِ أنّ المعنى المُجرّدَ لكلمةِ ( اسْتَوَى ) ، هو ذاتُهُ ولكنَّ الذي يتغيّرُ في دلالاتِ هذه الكلمةِ القرآنيّةِ هو الذاتُ التي تصفُها ، والعالمُ الذي تنتمي إليه هذه الذات ، أي استخدامُ هذه الكلمةِ في الجملةِ القرآنيّة .. وكذلك الأمرُ بالنسبةِ لكلمةِ ( الْعَرْشِ ) ، فالمعنى المُجَرَّدُ لهذه الكلمةِ هو ذاتُهُ ، ولكنَّ الفارقَ بين العرشِ الذي استوى اللهُ تعالى عليه من جهةٍ ، وبين العرشِ الذي رفعَ يوسفُ عليه السلام أبويه عليه .. ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) ( يوسف : 100 ) ، وعرشِ ملكةِ سبأ .. ( قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِيمُسْلِمِينَ ) ( النمل : 38 ) .. هذا الفارقُ هو ذاتُهُ الفارقُ بين اللهِ تعالى من جهةٍ ، وبين يوسُفَ وملكةِ سبأٍ والعالمِ الذي ينتميان إليه من جهةٍ أُخرى ..
فالكلمةُ القرآنيّةُ بحقيقتِها المُجَرَّدةِ عن العالمِ الذي ينتمي إليه الموصوفُ بها ، دلالاتُها ثابتةٌ مُطلقةٌ مٌتعلّقةٌ بعلمِ الله تعالى المُطلقِ المحيطِ بحقيقةِ الموصوفِ .. ودلالاتُها في كُلِّ عالمٍ من عوالمِ الوجودِ تصفُ وصفاً مُطلقاً حقيقةَ إدراكنا لارتسامِ صفاتِ الموصوفِ بِها في ذلك العالم .. وكلُّ ذلك ضمنَ صياغةٍ قرآنيّةٍ تحملُ من الدلالاتِ والمعاني ما يُناسبُ إدراكَ الأجيالِ المتلاحقةِ حتى قيامِ الساعة ..
.. وهكذا .. تعلَّمَ آدمُ عليه السلام المفرداتِ القرآنيّةَ التي تحملُ بظاهرِها وباطِنها الأسماءَ كُلَّها ،  وَهَبَط آدمُ عليه السلام بِها إلى الأرض ، فَكانتْ هذه الكلماتُ الفطريّةُ اللغةَ الأولى للإنسانيّة .. ومعَ الزمنِ بدأتْ لغاتُ البشرِ تتفرّعُ وتتوسّعُ باتجاهاتٍ مختلفة ، فحافظتْ بعضُ اللغاتِ على بعضِ المفرداتِ الفطريّة ، وهذا ما يُفسِّرُ وجودَ بعضِ المفرداتِ القرآنيّةِ في لغاتٍ أُخرى .. ومعَ الزمنِ قلَّ استعمالُ بعضِ هذه المفرداتِ الفطريّةِ عند قومِ العربِ الذين احتوتْ لغتُهُم القوميّةُ جميعَ المفرداتِ الفطريّةِ ، وهذا ما يُفسِّرُ قولَ بعضِ أفرادِ الأجيالِ الأُولى بأنّ بعضَ الكلماتِ القرآنيّةِ ليستْ عربيّة ..
إنّ كلَّ اللغاتِ العالميّةِ ( ما عدا المفردات القرآنيّة ) هي لغاتٌ وضعيّةٌ تفرّعتْ وابتعدتْ عن اللغةِ الفطريّةِ التي نزلَ بِها آدمُ عليه السلام .. وتقتربُ هذه اللغاتُ من الفطرةِ ، وتبتعدُ عنها ، بمقدارِ اقترابِها وابتعادِها عن اللغةِ الفطريّةِ التي علّمها اللهُ تعالى لآدمَ عليه السلام
وهكذا فإنّ اللغةَ الفطريّةَ التي تحمل مفاتيح التسمية الحق لكلِّ ما هو موجود في هذا الكون ، انحصرت داخل إطار لغة حافظت عليها أمّة فطريّة ، استمرّت بفطرتها منذُ آدمَ عليه السلام إلى محمّد ( ص ) .. لقد وضعت هذه الأمّة الكثير من المسمّيات الوضعيّة داخل لغتها ، لكنّها حافظت على المفردات التي نزل بها آدم عليه السلام ..
وَحَسِبَ بعضُهم أنّ بعض المفردات القرآنيّة التي قلّ استعمالها عند العرب وانتقلت إلى لغات أُخرى ، أو حافظت عليها لغات أخرى .. حسبها ليست عربيّة بالمعنى القومي .. مع أنّها عربيّة بالمعنى الفطري الموحى من الله تعالى ، واستعمالها القومي لا يلغي فطريّتها ، لأنّها أصلاّ ليست وضعيّة من قبل البشر..
ومن المعلومِ أنَّ صفةَ الأميّةِ هي صفةُ الفطرةِ وعدمِ التأثّر بالمجتمعات المحيطة ، وتعني المحافظة على الفطرة .. وبالتالي فإنَّ أُميّة اللغة تصف تماماً مجتمع الجزيرة العربيّة المعزول حضاريّاً - بشكل نسبي - عن الأُمم الأُخرى ، والذي لا يملك ما يفتخر به إلاّ اللغة .. فهو مجتمعٌ أُميٌّ فطري تحمل لغتُه اللغةَ الفطريّة منذ آدم عليه السلام إلى محمّد ( ص ) ، بل إلى قيام الساعة ، إضافة إلى ما أضافه ويضيفه هذا المجتمع من تسميات للمسائل عبر تاريخه الحضاري ..
وحكمة الله تعالى اقتضت أن يُنزِّل منهجه المُعجِز للبشريّة جمعاء ، والحاملَ لمنهجِ الهداية للبشريّة جمعاء ، بلغة فطريّة أوحاها لأبي البشريّة جمعاء ( آدم عليه السلام ) ، على رسول أُمّي فطري ، يعلم اللغة الفطريّة الموحاة من الله تعالى ، وينتمي إلى مجتمع أُمّي فطري يعلم هذه اللغة الفطريّة ، حتى يكون هذا المنهجُ وهذه المعجزةُ للبشريّة جمعاء التي تفرّعت لُغاتُها عن لغةِ صياغةِ هذا المنهج ..
.. فآدم عليه السلام تعلّم المفرداتِ الفطريّةَ من اللهِ تعالى في عالمِ الأمر ، وهبطَ بِها إلى الأرض كأوّلِ إنسان مُمتحنٍ على هذه الأرض .. ومحمّدٌ ( ص ) نزل عليه قولُ الله تعالى من العالَمِ ذاتِهِ ( عالم الأمر ) كآخرِ رسولٍ على وجه الأرض .. فالمسألةُ بدأت بآدمَ عليه السلام واكتملتٍ بمحمّدٍ ( ص )  ، لتشملَ البشريّةَ جمعاء ، عبرَ منهجٍ ومعجزةٍ للبشريّةِ جمعاء ..
.. فرسولُ البشريّةِ جمعاء لسانُهُ ولغتُهُ لسانٌ ولغةٌ تجمعُ البشريّةَ جمعاءَ قبل تفرّعِ لغاتِها المختلفةِ عن اللغة الفطريّة الأم التي نزل بها القرآن الكريم .. وبالتالي فإنّ تعلّم لغة القرآن الكريم لإدراك دلالاته ، هو في الحقيقة عودةٌ للغةِ الفطريّةِ الأم ، وعودةٌ إلى التسمياتِ الحق التي علّمها الله تعالى لآدم عليه السلام ..
قد يبدوا هذا الكلام ضرباً من الخيال بالنسبة لبعضهم .. لكنّنا نقولُ لمن يُؤمن بالقرآن الكريم ويرى كلامَنا هذا ضرباً من الخيال ..... هل يُعقل أنَّ الله تعالى يُفرِغ معانيه وأحكامَه وأدلّتَه ( كلامه ) في قوالبَ لغويّةٍ من وضع البشر لا يرون أمامهم أكثر من بضع كيلو مترات ، ثمّ يقول عن تلك القوالبِ اللغويّةِ إنّها قولي الذي أتحدّى الإنس والجن أن يصيغوا مثله ، وإنّها قولي الذي يحوي مفاتيح أسرار الكون ، وإنّها تِبيانٌ لكلِّ شيءٍ في هذا الكون ، وإنّها تحمل عُمقاً من التأويل لا يعلمه إلاّ الله تعالى ؟  .. فهل يُعقلُ أنْ تحملَ أوعيةٌ محدودةٌ بإدراكِ البشرِ ، دلالاتٍ غيرَ متناهيةٍ ومتناسبةً مع علمِ الله تعالى ؟ ..
.. وهذه الصفةُ التي يتَّصفُ بِها القرآنُ الكريمُ ، بأنّ كلماتِه فطريّةٌ موحاةٌ من الله تعالى ومصوغةٌ صياغةً مُطلقة تحمل كلّ أسرار الكون .. هذه الصفة بيّنها الله تعالى في كتابه الكريم ..
( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )  ( يوسف : 2 ) ..
فالكلمتان ( قُرْآناً عَرَبِيّاً ) تعنيان بإطارهما العام ، قرآناً كاملاً شاملاً تامّاً مفصّلاً لا عوج فيه وخالياً من أيِّ عيب أو نقص ، ومعناهما ليس محصوراً بإطار التفسير المعروف - تقليديّاً - بأنّه قرآنٌ بلغةِ قومِ العرب ... هو قرآنٌ بلغة قوم العرب ، ولكنّ هذا المعنى يأتي من جملة المعاني المُرادة ، لأنّ لغةَ قومِ العرب تحمل المفردات القرآنيّة الفطريّة الموحاة من الله تعالى كما رأينا .. ودليلنا في هذا المذهب من التفسير هو الآتي :
1 - قولُه تعالى ( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) في نهاية الآية الكريمة ، هو خطاب للبشريّة جمعاء ، وليس خطاباً خاصّاً بالعرب دون غيرهم ، لأنَّ القرآن الكريم أنزله الله تعالى لجميع البشر وليس للعرب وحدهم ..
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ) ( النساء : 174 ) ..
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )  ( سـبأ : 28 ) ..
وإنَّ الجزمَ بإنّ الكلمتين ( قُرْآناً عَرَبِيّاً ) لا تعنيان إلاّ قرآناً بلغة قوم العرب ، يقتضي أنّ نهاية الآية الكريمة ( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )  خطابٌ موجّهٌ حصراً للعرب .. وهذا يتعارض مع حقيقة القرآن الكريم كونَهُ كتاباً للبشريّة جمعاء ..
2 - ودليلٌ آخر على أنّ كلمة ( عرب ) تعني التمام والكمال والخلو من العيب والنقص ، هو قول الله تعالى ( إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً )  ( الواقعة : 37 ) ..
فكلمةُ ( عُرُباً ) مشتقّةٌ من الجذر ( ع ر ب ) ، ولا تخرج في معناها عن إطار المعنى الذي يحمله هذا الجذر ، ونرى أنّها لا يمكن أن تعني أنَّ أُولئك اللاتي سينشِئَهنّ اللهُ تعالى في الآخرة لأصحابِ اليمين ينتمين إلى قوميّة مُحدّدة .. فالأَولى بمعيار القرآن الكريم عقلاً ومنطقاً أن يكون معنى كلمة ( عُرُباً ) هو أنّ اللاتي سينشئهنّ الله تعالى في الآخرة ، كاملاتٌ تامّاتٌ خالياتٌ من أيِّ عيب أو نقص ..
3 - ومن متعلّقات القرآن الكريم كونَهُ عربيّاً أنّه غيرُ ذي عوج ..
( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) ( الزمر : 28 ) ..
4 - والقرآن الكريم عربي لأنّه فُصّلت آياته تفصيلاً كاملاً لكلِّ عالمٍ ومتعلّمٍ يريد أن ينهل من علومه ..
( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )  (  فصلت : 3 ) ..
5 - والله تعالى أنزل القرآن الكريم حال كونه حُكماً تامّاً كاملاً لا عيب فيه ولا نقص ..
(  وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً  )  ( الرعد : 37  ) ..
..فالحكم مسألة مُجرّدة تماماً عن اللغة من حيث خصوصيّتها القوميّة ، وبالتالي نرى أنَّ كلمة ( عَرَبِيّاً ) تُبيّن لنا وجهَ الكمال والتمام والخلوِّ من أيِّ عيب أو نقص في الحكم الذي أنزله الله تعالى ..
6 - ومن خصائص إنزال القرآن الكريم أنّه أُنزل بلغةٍ و أسلوبٍ وتِبيان ( لسان ) ، بحيث يتّصف بالكمال والتمام والخلو من أيّ عيب أو نقص .. وليس بلغة  وأسلوب وتبيان كتبيان البشر الذي لا بُدّ وأن يحمل العيب والنقص ، لأنّ علم البشر - مقارنة مع علم الله تعالى - علمٌ ناقصٌ ..
( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) ( النحل : 103 )  ..
( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ  (193)  عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ  (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ  )  ( الشعراء)
( وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ )   ( الأحقاف :  من الآية12 ) .. ففي الآية الأخيرة نرى أنّ الذين يُنذرُهم القرآن الكريم (الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، والذين يُبشّرهم القرآن الكريم (لِلْمُحْسِنِينَ) ، موجودون في كلِّ الأمم ، وليسوا حصراً على قومٍ مُحدّدين ( قوم العرب ) .. ولذلك فالكلمتان  ( لِسَاناً عَرَبِيّاً ) تعنيان لغةً وأسلوباً وتِبياتاً كاملاّ تامّاً خالياً من أيِّ عيب أو نقص ..
فاللسان هو آليّة اللغة وأُسلوبُ المخاطبة ووسيلة التبيان ..
( وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ) (مريم:50) ..
وحكمة الله تعالى تقتضي أن يُرسل كُلَّ رسولٍ بلغة قومه وبأسلوبهم وبطريقة تبيانهم ، حتى يُبيّن لهم المنهجُ الذي يحمله ..
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) ( إبراهيم:4)  ..
                                                                                     ولذلك فجميع الرسالات السابقة نزلت ( صياغة ) بلغات البشر الوضعيّة ، لأنها تحمل مناهج لأقوامٍ مُحدّدين في أزمنة مُحدّدة ، وبالتالي لم تكن قولَ الله تعالى ، إنّما كانت فقط كلامَ الله تعالى .. بينما نرى أنَّ منهج البشريّة جمعاء ( القرآن الكريم ) نزل قولاً مُنَزَّلاً من عند الله تعالى، بلغةٍ فطريّة نطق بها أبو البشريّة جمعاء ( آدم عليه السلام ) ، في العالمين ( عالم الأمر وعالم الخلق ) ..
فمنهج البشريّة جمعاء لا بُدّ أن يكون بلسانٍ فطريٍّ يجمع البشريّة جمعاء ، وبلغة فطريّة هي اللغة الأولى التي عرفتها البشريّة .. وهذا لم يتوفّر إلاّ باللغة الفطريّة التي حافظ عليها الأميّون ( لغة ) منذُ آدمَ عليه السلام إلى مبعثِ مُحمّد ( ص ) ..
ومن مشتقّات الجذر ( ع ر ب ) كلمةُ الأعراب والتي تصوِّر لنا البشر الذين يتظاهرون بالكمال والتمام ولا يعترفون بعيوبهم، فهمزة التعدّي تُبيّن لنا  - إضافة لما يبيّنه لنا القرآن الكريم من صفات الأعراب -  أنّهم يتعدّون على صفة الكمال والتمام والخلو من العيب والنقص، هذه الصفة التي لا يتّصفون بها ..
ولمّا كان البشر في الحياة الدنيا لا يُمكن أن يصلوا إلى مرتبة الكمال والتمام والخلو من أيِّ عيب أو نقص، فإنّنا نرى أنّ الكلمات (عربيٌّ ) ، ( عربيٍّ ) ، ( عربيّاً ) ، ( عُرُباً ) ، وهي باقي مشتقات الجذر ( ع ر ب ) في القرآن الكريم ، تأتي في القرآن الكريم لتصوِّر لنا صفاتِ كتابِ الله تعالى ، واللاتي سيُنشئهنّ الله تعالى في الآخرة لأصحاب اليمين، ولا تأتي هذه الكلمات أبداً لتصوِّر لنا البشر في الحياة الدنيا .. بينما تأتي كلمة الأعراب التي تُصوِّر لنا التعدّي على ما يحمله الجذر ( ع ، ر ، ب ) من معانٍ ودلالات ، صفةً للذين يتظاهرون بالكمال والخلو من العيوب والنواقص ..
والجزم بتفسير كلمة الأعراب في معظمِ كُتبِ التفسير ،  بأنّها لا تعني إلاّ البدو ( سكان البادية ) ، يتعارض تماماً مع روح القرآن الكريم ، الذي يصف البشر ويُقيّمهم حسب انتماءاتهم العقيديّة ، لا حسب انتماءاتهم الجغرافيّة والإقليميّة ..
.. فلو كانت كلمة الأعراب لا تعني إلاّ البدو ( سكان البادية ) ، لاستُبدلت - في كتاب الله تعالى - بكلمة البدو ، فكلمة البدو كلمة قرآنيّة ، وفي القرآن الكريم لا تُوجَد كلمة مُرادفة لكلمة أُخرى بالمعنى الذي يتصوّره بعض البشر ..
(وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) ( يوسف 100)
ومما يُقابل كلمة عربي التي تعني - كما رأينا - الكمال والتمام والخلو من العيب والنقص ، هو كلمة ( أعجمي ) ، التي تعني عدم الكمال وعدم التمام ، وتعني وجود العيب والنقص .. يقول الله تعالى .. وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ  198  فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ 199  كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ 200 لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ"  ( الشعراء 198 -  201 ) ..
من الواضح في هذه الصورة القرآنيّة أنَّ كلمة (  الْأَعْجَمِينَ  ) لا تعني أبعاداً قوميّة ، ولا تعني غيرَ البشر ، إنَّما تعني صفاتٍ سلبيّةً في نفوس بعض الأعجمين ، تحمل من العيب والنقص والابتعاد عن الحق ما يجعلهم لا يُؤمنون بالقرآن الكريم ، ولا يرون فيه الحقَّ ودلائل الإعجاز التي تُبيّن كماله وتمامه وخلوّه من أيِّ عيب أو نقص ..
ولو أخذنا هذه الكلمة ( الأعجمين ) حسب المعنى الذي ذهبت إليه التفاسير ، لتناقض ذلك مع ما يحمله القرآن الكريم من أدلّة ، ومع الواقع الذي نراه بأمِّ أعيننا ..
- يتناقض هذا المذهب من التفسير مع كون القرآن الكريم أُنزل للبشريّة جمعاء ، وليس لقوم العرب وحدهم .. فبعض الأعجمين ( إن كانت كلمة الأعجمين تحمل معنىً قوميّاً كما تذهب التفاسير ) نُزِّلَ عليهم القرآنُ الكريم ، لأنّهم من جملة الناس الذين نُزِّلَ إليهم القرآنُ الكريم .. وبالتالي  فالآية الكريمة  ( وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ) لا يُمكن أن تعني بعض ما هو ليس من قوم العرب ، لأنّ المجرمين الذين تصفهم الآيات الكريمة التالية لهذه الآية ، والذين لا يُؤمنون بالقرآن الكريم حتى يروا العذاب الأليم ، موجودون في قوم العرب وفي كلِّ الأقوام ..
- ويتناقض هذا المذهب من التفسير مع الواقع ، فغير العرب الكثير منهم آمن بالقرآن الكريم ، والله تعالى يقول عن بعض الأعجمين مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) ..فلا تُوجد أُمّةٌ إلاّ وفيها من آمن بالقرآن الكريم .. ولذلك فإنَّ الجزم بأنَّ العبارة القرآنيّة   بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ )تعني بعض القوميّات الأخرى ، يتناقض مع وجود المؤمنين بالقرآن الكريم في كلِّ القوميّات ، ومع كون القرآن الكريم منهجاً لكلِّ القوميّات دون استثناء ..
والآية الكريمة التالية ، بتفسيرها المنسجم مع روح القرآن الكريم كونَهُ كتاباً مُنزلاً للبشريّة جمعاء ، ومع ساحة رسالة محمّد ( ص ) والتي هي للبشريّة جمعاء ، تُؤكّد صحّة ما ذهبنا إليه في تفسيرنا لكلمة أعجمي ..
( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) ( فصلت : 44 ) ..
ذهبت التفاسير - تقليداً - إلى أنّ كلمة  ( أَأَعْجَمِيٌّ ) في هذه الآية الكريمة تعني قرآناً بلغةِ غير قوم العرب ، وإلى أنّ كلمة  ( وَعَرَبِيٌّ  ) تعني رسولاّ عربيّاً ، أو قوماً عرباً .. وهذا المذهب من التفسير يتعارض مع القرآن الكريم في النقاط التالية :
1 - الكلمتان ( أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ) كلمتان قرآنيّتان مُتتاليتان بينهما حرفُ عطف ، وإعادة كلٍّ منهما إلى أمرٍ مختلفٍ عن الأمر الذي تُعاد إليه الكلمةُ الأخرى دون إيِّ دليلٍ ، أمرٌ يتعارضُ مع انسجام روح النصّ القرآني .. فالأَولى أن تُعاد الكلمتان إلى أمرٍ واحدٍ ..
2 - إذا كان المقصودُ - كما ذهبت التفاسير - بالعبارة القرآنيّة ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ) أنّه لو أُنزل القرآن الكريم بلغة قوميّة أُخرى ، لقال العرب - مُحتجِّين - كيف يكون القرآن بلغة مخالفة للغتهم القوميّة وللغة الرسول ( ص ) ، لو كان هذا المذهبُ من التفسير صحيحاً ، لأدّى ذلك - سواء علم من يجزم بهذا التفسير أم لم يعلم - إلى أنَّ لغير العرب مبرِّراتِ الاحتجاج على كونِ لغةِ القرآنِ الكريم تتعارضُ مع لغاتِهم القوميّة ، وعلى كون لغةِ الرسول ( ص ) تتعارض أيضاً مع لغاتِهم القوميّة .. وبالتالي فهذا المذهبُ من التفسير يتعارض تماماً مع حقيقة القرآن الكريم كونَهُ كتاباً للبشريّة جمعاء ، ومع حقيقة بعث محمّد ( ص ) للبشريّة جمعاء ، بعيداً عن القوميّات ولغاتِها ..
3 - نهاية الآية الكريمة ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) ، تُبيّن حقيقة تفاعل البشريّة جمعاء مع القرآن الكريم ، وليست خاصّةً بالعربِ وحدِهم ، فانقسام البشريّة إلى قسم يؤمن به وقسم لا يؤمن به ، مسألة لا يمكن حصرها بقومِ العرب ..
إنَّ الله تعالى يقول لنا من خلال هذه الصورة القرآنيّة ، ولو جعلنا هذا القرآن بماهيّة ليست كاملة وليست تامّة وليست خالية من أيِّ عيب أو نقص ، ولو جعلنا آياته ليست مفصَّلة وليست مبيّنة بتمام كامل من أيِّ عيب أو نقص ، لكان القرآن الكريم حاوياً على العيب والنقص ، ولرَأوا فيه العيبَ والنقص ، ولحسبوا أنَّ فيه من الكمال والتمام حسب ما يناسب أهواءَهم من هذا العيب ، وبالتالي لقالوا كيف يكون ذلك ، أعيب ونقص ، وكمال وتمام ..
وهكذا نرى كيف أنّ الكمال والتمام والخلوَّ من العيب والنقص ، وهذا ما يتّصف به القرآن الكريم ، كتاباً وحُكماً ولساناً ، هو نتيجةٌ لكون مفرداتِه فطريّةً مُوحاةً من الله تعالى بعيداً عن أيّ اختيارٍ بشريٍّ ، ونتيجةٌ لربط هذه المفردات مع بعضها بعضاً في العبارة القرآنيّة ، وفق حكمة مطلقة وعلمٍ مطلقٍ من الله تعالى ..
ولذلك نرى كيف أنَّ دلالات المفردات القرآنيّة في العبارة القرآنيّة ، تحمل من الأدلّة والمعاني أكبرَ بكثير مما تُبيّنه لنا قواميسُ اللغة العربيّة ، ومن أن تُحيط تصوّراتُنا بهذه الأدلّةِ والمعاني ، ونرى أيضاً أنَّ صياغةَ القرآن الكريم فوق قواعد اللغة العربيّة التي تمّ تقعيدُها من قبل البشر ..
ولمّا كانت المفرداتُ القرآنيّة تُسمّي ماهيّة الأشياء تسميةً مطلقة ، فإنَّ ذلك يقتضي أنّ الأسماءَ القرآنيّةَ التي تُسمِّي تلك الأشياء ،  تتقاربُ في بنيتها اللغويّةِ تقارباً يوازي تقارب الأشياء بخواصّها وصفاتها من منظار علم الله تعالى ..
.. ولذلك يدخل الحرف القرآني في معادلة الوصف كواحدة معنى ، وليس مجرّدَ لبنةٍ صوتيّةٍ في بناء الكلمة .. وأكبر دليلٍ على ذلك هو الحروف النورانيّة في بداية بعض السوَر ، التي منها ما يأتي في آيات كعبارات قرآنيّة مستقلّة ... ولا يُمكن لعاقل أن يتصوَّر أنّها مجرّدُ واحداتٍ صوتيّة دون معنى ، والله تعالى يقول ..
( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) ( هود: 1 )
.. فاللبنة الأولى للمعنى في القرآن الكريم هي الحرف القرآني ، وتأتي الكلمة القرآنيّة وصفاً مطلقاً لماهيّة الموصوف، من خلال اجتماع معاني الحروف المكوِّنة لهذه الكلمة بترتيب مُعيّن .. فالكلمات التي تتكوّن من الحروف ذاتها ، يعود الاختلاف في ما تحمله من معانٍ إلى الاختلاف في ترتيب الحروف المكوّنة لهذه الكلمات ، مع الأخذ بعين الاعتبار كونَ الحرف ينتمي للجذر اللغوي الذي تفرّعت عنه الكلمة ، أو كونَهُ لا ينتمي إلى هذا الجذر .. وكلُّ ذلك ضمن قوانينَ ونظمٍ مطلقةٍ تنتظمُ بِها واحداتُ المعنى ( الحروف ) ، في صياغةٍ مطلقة صاغها الله تعالى من اللبنات الأولى للمعنى وهي (28) حرفاً قرآنيّاً ، بحيث يتمُّ من خلالِها الوصفُ المطلقُ للأمورِ والأشياء ، وصفاً يحمل مفاتيحَ كلّ شيءٍ في هذا الكون ..
والمفردات القرآنيّة الفطريّة ( بما فيها الحروف كواحدات معنى ) صالحة لتسمية كلِّ ما في الكون ، وذلك من منظار حقيقتها وماهيّتها ، لا من منظار ما نراه من ظاهرها .. فالاختلاف الذي نراه  في ظاهر الأمور والأشياء في هذا الكون  من منظارنا الظاهري ، يختلف عن حقيقة هذه الأمور والأشياء من منظار عالم الأمر المجرّد عن المكان والزمان والذي لا تجتمع فيه المتناقضات ..
فالقرآن الكريم الذي نزل تبياناً لكلِّ شيء يقتضي من جملة ما يقتضيه أن يكون تبياناً لجميع الأسماء الحقِّ في هذا الكون ، والتي تسمّي - من منظار الله تعالى - كلَّ شيء في هذا الكون ..
وحتى نُدرك هذه الحقيقةَ نحتاج لمفاتيحِ أسرارِ القرآن الكريم ، للدخولِ إلى ما وراء الظاهرِ الذي نراه في كلماتِهِ وجمله  ، ونحتاج أيضاً إلى مفاتيح إدراك ماهيّة الأشياء في هذا الكون .. عندها سنرى أنّ الحروفَ القرآنيّةَ والمفرداتِ القرآنيّةَ والجملَ القرآنيّةَ ينطوي تحت ما تصفه وتصوّره كلُّ شيءٍ في هذا الكون .. وفي الآخرة عندما يأتي تأويل القرآن الكريم سنرى هذه الحقيقةَ بأمّ أعيننا ..
.. والمعجزةُ العدديّةُ تُثبتُ هذه الحقيقةَ من خلالٍ بُرهانٍ رياضيٍّ لا يعرفُ الكذب والخداع فبإعطاءِ كُلِّ حرفٍ قُرآنيٍّ قيمةً عدديّةً ، هي ذاتُها ترتيبُ مجموعِ ورودِهِ في القرآن الكريم ، وبحسابِ الجُملِ القرآنيّةِ ، بناءً على هذه الأبجديّةِ المُستنبطةِ من كتابِ اللهِ تعالى .. نرى أنَّ توازن المعنى والدلالات بين الجملِ القرآنيّة ، وتكامُلَهُ ، ينعكسُ توازناً وتكاملاً في القيمِ العدديّةِ لتلك الجُمَل ..
فلمّا كانَ بناءُ المعنى والدلالاتِ متوازناً مع البناءِ الرقميِّ الذي لبنتُهُ الأولى الحرف ، فإنَّ الحرفَ هو اللبنةُ الأولى في بناءِ المعنى والدلالات .. وهذا لا يكونُ إلاّ إذا كانت المُفرداتُ القرآنيّةُ فطريّةً موحاةً من الله تعالى ، وليست وضعيّةً من صنع البشر ..
بقلم / عدنان الرفاعى