الثلاثاء، 17 يوليو 2012

ولــكــنّ أكــثـرَكــم لـلــــحقّ كــارهـــون عدنان الرفاعى


ولــكــنّ أكــثـرَكــم لـلــــحقّ كــارهـــون
2/1

عدنان الرفـاعي

كاتب ومــفكِّـر إســلامي

الموتُ نقيضُ الحياة ، ولذلك ترد كلمةُ الموت ومشتقاتها ( المتعلّقة بالإنسان ) في كتاب الله تعالى وروداً متوازناً تماماً مع كلمة الحياة ومشتقّاتها ( المتعلّقة بالإنسان ) ، فكلٌّ منهما ترد في كتاب الله تعالى ( 144 ) مرّة ..
وسواءٌ الموت أم الحياة لكلٍّ منهما وجهيه المادّي والروحي ، فكم هناك من المحسوبين مع الأحياء يصفهم الله تعالى بالأموات ( روحيّاً ) ..
 ( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ  ) ( النحل : 21 ) ..
وكم هناك من الموتى الذين فارقوا الحياة الدنيا بأجسادهم يصفهم الله تعالى بالأحياء ..
( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) ( البقرة : 154 )
والفكر هو آليّة التدبّر والنظر في ماهيّة الأشياء وما يجري من أمور ، وبالتالي هو طريق التعقّل والإدراك .. ولذلك نرى أنّ العقل والفكر كاسمين لم يردا في كتاب الله تعالى ولا مرّة ، وأنّ ما وردَ هو الصيغ الأخرى ( غير الاسميّة ) .. فالله تعالى يقول لنا من خلال ذلك : لا تُوجدُ آليّةُ تفكيرٍ وتعقّلٍ ( بعينها ) صالحة لكلِّ زمانٍ ومكان ، فلكلِّ زمانٍ ومكانٍ آليّاتُه الخاصّة للتفكير والتعقّل ، والتي تتعلّقُ بالسويّة الحضاريّة للجيل الذي يعيش في ذلك الزمان والمكان ، بحيث يكون كتابُ الله تعالى المرجعَ الحاملَ لكلِّ آليّات التفكّر والتعقّل في كلِّ زمانٍ ومكان ..
إذن لا بدّ من معايرة مفهومنا للموت والحياة على دلالات كتاب الله تعالى ، حتى نستطيع تقييم موقع أنفسنا ما بين الموت والحياة ، وبالتالي معرفة موقعنا ( كأمّة ) بين الأمم .. ولا بدّ من إدراك الجوانب السلبيّة في حركتنا التاريخيّة ، قبل الإيجابيّة ، حتى نستطيعَ تجاوزَ هذه السلبيّات ، والعملَ على بناء مستقبل أمّتنا بشكلٍ سليمٍ بعيدٍ عن سلبيّات هذه الحركة .. ولا بدّ من تقويم آليّاتنا الفكريّة على ضوء ما يحمل كتاب الله تعالى من دلالاتٍ ومعانٍ للحضارة التي نعيشها – للأسف – بأجسادنا لا بفكرنا ..
لا بدّ أن نعلمَ أنّ فكر الأمّة هو الملهمُ للدفع الثقافي الذي يعيشه أبناؤها ، والملهمُ للقوّة التي تدفع دفّةَ تطوّرها الحضاري ، والملهمُ لألوان معاييرها الأخلاقيّة التي تنبع من قيمها .. وأنّه بمقدار ما تتطابق معاييرها الفكريّة مع منهج الحقّ بمقدار ما يستمرُّ عطاؤها الحضاري للبشريّة جمعاء ..
وقَدَرُ أمّتنا العربيّة والإسلاميّة أن يكونَ معيارُ فكرها القرآنَ الكريم ، ومعيارُ حضارتِها الاقترابَ من العملِ بأحكامه ، ومعيارُ حياتها الإدراكَ السليم لدلالاته .. فكلُّ عربيٍّ ( مسلماً كان أم مسيحيّاً ) مُدانٌ في لغته القوميّة للقرآن الكريم الذي كان الضامنَ الأوّلَ لعدم تغيّر هذه اللغة عبر قرونٍ كثيرة كما حصل مع الكثير من الأمم .. وكلُّ مسلمٍ مُدانٌ في انتمائه العقائدي للقرآن الكريم الذي كان الضامنَ الأوّلَ لتصحيح هذا الانتماء عبر التاريخ ..
.. لذلك يتمُّ فرزُ الأحداثِ التاريخيّة ، والقراءاتِ المختلفة للمنهج ، والرجالِ الحاملين للواء الفكر ، حسب الاقتراب من حقيقة دلالات كتاب الله تعالى ، كما يبيّنها كتابُ الله تعالى ، لا كما يُلبّس على دلالاته من قبل الذين يدعون لأنفسهم ولمذاهبهم تحت اسم الدعوة للإسلام ..
والمشكلة بين حاملي لواء الفكر الإسلامي عبر التاريخ ، تكمن في الاختلاف حول إدراك دلالات القرآن الكريم ، وفي فرض بعض الروايات التاريخيّة المنسوبة إلى الرسول r والمخالفة بظاهرها وباطنها لدلالات كتاب الله تعالى ، كرواياتٍ مقدّسةٍ تؤطِّرُ حدودَ إدراك أحكام القرآن الكريم ، بل ويملك بعضها – حسب زعم الكثيرين – صلاحيّة نسخ بعض أحكام كتاب الله تعالى ، وكأنّ كتابَ الله تعالى ناقصٌ لا بدّ من معايرته على التاريخ .. وتكمن أيضاً في التقوقع الفكري داخل أطرٍ مذهبيّة تسجن دلالات كتاب الله تعالى في إدراك بعض الرجال الذين أسّسوا هذه المذاهب ..
وحينما يأتي متدبّرٌ لكتاب الله تعالى ، تقوم الدنيا على رأسه ولا تقعد ، قبل أن يقرأ أحدٌ ما يقول ، وبذلك يتساوى – عند هؤلاء – الخطأُ مع الصحيح ، والجاهلُ مع العالم ، والباطلُ مع الحقّ .. كلُّ ذلك لأنّ المعيار الوحيد للحقِّ والباطل هو المذهب ، والشيخ ، والعصبيّة العمياء ..
أليس في مقتل أبي حنيفة النعمان ، وفي محنة أحمد بن حنبل ، وفي وفي ..... أكبرُ دليلٍ على صحّة ما نقول ؟ .. كلُّ مذهبٍ فكريٍّ يعتقدُ أتباعُه أنّه حصيلةُ إجماع الأمّة ، وبالتالي فالمذاهب الأخرى تحمل أفكاراً خارج إجماع الأمّة ، وبالتالي فهذه المذاهب بعيدة عن الإسلام بمقدار بعدها عن هذا المذهب .. وحينما يخرج متنوّرٌ ويطلب البرهانَ على أيِّ مسألة من المسائل التي يُقال بأنّ الأمّة أجمعت عليها ، يُتّهم بنشر الفتنة بين أفراد الأمّة ، وبالتآمر ، وربّما بالكفر والزندقة ..
معظمهم يقول : أجمعت الأمّة على مسألة الناسخ والمنسوخ ، وحينما يُسأل هؤلاء عن حديثٍ واحدٍ لرسول الله r ، يبيّن فيه مسألة النسخ ، ولو بأيِّ درجة من الصحّة كانت ، أو يسألون عن عدد الآيات التي يزعمون أنّ الأمّة أجمعت على نسخها ، لا يجدون جواباً سوى اتّهام السائل بالخروج على إجماع الأمّة ..
 وحينما يُسألون عن التوفيق بين مسألة الناسخ والمنسوخ التي هي – حسب ما يصوّرونها – قمّة الاختلاف بين أحكام كتاب الله تعالى ، وبين دلالات الآية الكريمة ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) ( النساء :82 ) .. وحينما يُسألون عن التوفيق بين عرضهم لمسألة الناسخ والمنسوخ التي هي في النهاية عدمُ اتّباعٍ لبعض أحكام كتاب الله تعالى التي تحملها بعض كلماته المرسومة ، وبين دلالات الآية الكريمة التالية التي تؤكّد أنّ كلّ عبارة قرآنيّة لها ساحة اتّباع في كلّ زمانٍ ومكان  ( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ) ( الأعراف :3 ) ، لا يجدون جواباً إلاّ أنّ النسخَ واردٌ بنصٍّ صريح في قوله تعالى  ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( البقرة : 106 ) ..
وحينما يُطلبُ منهم العودة إلى دلالات هذه الآية الكريمة ضمن سياق الآية السابقة لها ، حيث يتبيّن أنّ النسخَ المعنيَّ هو نسخ أحكام كتاب الله تعالى لما قبله من الأحكام والشرائع ..  ( مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )  ( البقرة : 105 – 106 ) ، وأنّ كلمة آية تعني الحكم ( ولا تعني مجموعة كلمات قرآنيّة ) ، بدليل قوله تعالى         ( سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )  ( النور : 1 ) .. حين ذلك لا يجدون جواباً إلاّ بعرض بعض الآيات الكريمة عبر تفسيرٍ تاريخي يجعلُ بينها اختلافاً وتناقضاً بغية البرهنة على مسألة الناسخ والمنسوخ .. وكأنّ الهدف ليس تدبّر دلالات كتاب الله تعالى ، إنّما الجدال لإثبات التفسير التاريخي ، ولإثبات صحّة المذهب الفكري ولو على حساب العقل والمنطق ..
ومن أكثر المسائل التي يستشهدون بها ، مسألةُ الخمر .. بأنّ الصورة القرآنيّة الكريمة          (  يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا  ) ( البقرة : 219 ) ، منسوخة ، لأنّها تحمل – حسب زعمهم – حُكم إباحة شرب الخمر .. وحينما يُقال لهم : إنّ هذه الآية الكريمة لا تحمل أبداً حكم إباحة شرب الخمر ، بل هي الآية الوحيدة في كتاب الله تعالى التي تحرّم الخمرَ بصيغة التحريم ، وذلك بالتكامل مع دلالات الصورة القرآنيّة الكريمة  (  قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْم   ) ( الأعراف : 33 ) ، حيث يبيّن الله تعالى أنَّ الخمرَ فيه إثمُ كبير ، وأنّ الإثم حرام ، وبالتالي فالخمرُ مُحرّمٌ حرمة كبيرة ، وإنّه لا داعي لنسخ هذه الصورة القرآنيّة .. حينما يُقال لهم ذلك ، يعودون إلى أسباب النزول ، وكأنّ القرآن الكريم نصٌّ تاريخيٌّ خاصٌّ بالجيل الأوّل ، ويعودون فيستشهدون بالصورة القرآنيّة   (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ )  (النساء : 43 ) ..
وحينما يُقالُ لهم : إنّ الأولى بإدراك دلالات كلمة ( سُكَارَى ) في هذه الآية الكريمة ، هو العودة إلى هذه الكلمة ومشتقّاتها في كتاب الله تعالى ، فهي تعني في كتاب الله تعالى سدّ منافذ الإدراك بحيث لا يعلم الإنسان ما يقول :
 ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ )     ( الحجر : 15 ) ..
( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ( الحجر : 72 )
 ( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) ( الحج : 2 )
( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) ( ق : 19 )
وممّا يؤكّد ذلك أنّ الصورة القرآنيّة (  لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ   ) تنطق بهذه الحقيقة ، فحالة السكارى تنتهي حينما يعلم الإنسان ما يقول ، وبالتالي فحالة السكارى المعنيّة هنا هي عدم علم الإنسان لما يقول ، وهذا يكون بأسباب مختلفة كالخوف وغيره ، وبالتالي فالآية لا علاقة لها بالخمر ، لأنّها تبدأ بخطاب المؤمنين  في كلِّ زمانٍ ومكان ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، والمؤمنون الملتزمون بمنهج الله تعالى – في كلِّ زمانٍ ومكان – لا يشربون الخمر ..
حينما يُقال لهم ذلك لا يجدون ما يقولونه إلاّ أنّ جميع مشتقّات الجذر ( س ، ك ، ر ) ، التي هي – كما رأينا – بمعنى سدّ منافذ الإدراك ، تحمل معنى مجازيّاً ، وإذا قيل لهم لنفرض أنّ الأمر كذلك – وهو ليس كذلك – فلماذا لا يكون السكر المعني بالآية المزعوم نسخها مجازيّاً كغيره ، حين ذلك لا يجدون ما يقولونه سوى تكفير القائل وإلصاق التهم به ..
كلّهم يتحدّثون عن المرحليّة حين عرض مسألة الناسخ والمنسوخ ، بأنّ أحكام القرآن الكريم نزلت لمراحل مختلفة ، وأنّ تحريم الخمر لو نزل دفعةً واحدة لاستثقله الناس .. دون أن يعيروا فكرهم ولو للحظةٍ واحدة أنّ أحكامَ القرآن الكريم صالحةٌ لكلِّ زمانٍ ومكان ، وأنّ المرحليّة ليست في ماهيّةِ النصِّ القرآنيّ وأحكامِهِ كما يُزعم في مسألة الناسخ والمنسوخ ، إنّما هي في استقبال الجيل الأوّل لهذه الأحكام ، وفي عدم نزول القرآن الكريم دفعةً واحدة ..
وكيف تكون بعض أحكام كتاب الله تعالى مرحليّة ، وصالحة لأزمنة وأمكنة محدّدة ، كما يُزعم في مسألة الناسخ والمنسوخ ؟! .. أليس ذلك يؤدّي إلى أنّ القرآنَ الكريمَ مخلوقٌ لأنّ بعضَ أحكامه خضعت للزمان والمكان ؟!!! .. إنّ كون القرآن الكريم ليس مخلوقاً ، يقتضي حتماً استحالة احتوائه على آياتٍ منسوخة ..