الأربعاء، 25 يوليو 2012

عدنان الرفاعي يكتب: الجذور الأيديولوجيّة للتطرّف (في الفكر المحسوب على الدين)

عدنان الرفاعي يكتب:
الجذور الأيديولوجيّة للتطرّف
 (في الفكر المحسوب على الدين)




فى الفِكْرِ الدينىِّ يتجلّى التطرّفُ فى أبشعِ صُوَرِه كَوْنَ المتطرّفِ ينطلقُ من تصوّراتٍ يحسبُها مُرادَ اللهِ تعالى.

حينما تُدفَعُ منظومةُ الوعى الضابطِ لِفِكْرِ الأمّةِ وثقافتِها نحو سُبلِ إلغاء الآخر، واحتكار الخلاص، واتّهام الآخرين بالكفرِ والزندقةِ لمجرّدِ أنّهم آخرون.. حين ذلك تكونُ الأمّةُ قد غاصت فى مستنقعِ التطرّف..

وللوقوف على حقيقةِ الجذور العميقة للتطرّف، لا بُدَّ مِنْ الوقوف عندَ حقيقةِ الفِكْرِ الذى يستمدُّ منه المتطرّفونَ بذورَ تطرُّفِهِم، ولا بُدّ من الوقوفِ -أيضًا- عند حقيقة الواقع الذى يعيشُه المتطرّفون، والذى يُعَدُّ التربةَ والمُناخَ الذى تنبت فيه تلك البذور..

وفى الفِكْرِ الدينىِّ يتجلّى التطرّفُ فى أبشعِ صُوَرِه، كَوْنَ المتطرّفِ ينطلقُ من تصوّراتٍ يحسبُها مُرادَ اللهِ تعالى، وينطلقُ من تكليفِه لنفسِه بأنّهُ الناطقُ باسم الله تعالى فوق هذه الأرض، وأنّه يُجسِّدُ مُرادَه.. وهذا ما حدث مع بعضِ أتباع الرسالتين السماويّتين السابقتين للإسلام.. وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ» (المائدة: 18

وبالتالى فالغارقُ فى مستنقعِ هذا التطرّف الفِكرى، لا يُراجعُ نفسَهُ ولا يستخدمُ عقلَهُ، مهما بلغ حجمُ جريمتِه، ومهما أساء إلى الآخرين، لأنّه يعتقد أنّه يقفُ مع الله تعالى فى خندقٍ واحدٍ معادٍ للخندق الذى يقف به أولئك الآخرون..
 .. وقد تجلّى هذا الغلوُّ فى أنفسِ الذين كفروا من بنى إسرائيل، ولذلك يصفُهم اللهُ تعالى بقولِه: كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ» (المائدة: 79).
إذن.. الجذورُ الأولى للتطرّف الدينىّ، هى غُلوٌّ يبدأُ بتضخيمِ الذات، مرورًا بتقزيم الآخر، وصولا إلى إلغائه وإخراجِه من دائرة الإيمان والخلاص، وبالتالى اتّهام الآخرين بالكفر لأنّهم ليسوا فى دائرة تلك الذات.. وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» (البقرة: 111.


وحتّى يحيا هذه التطرّفُ ويستمرَّ فى الأجيالِ اللاحقة، لا بُدَّ له من نصوصٍ يستندُ إليها، تتوارثها تلك الأجيال.. من هنا يبدأُ الوضعُ على الرسلِ عليهم السلام، ويبدأُ التحريفُ والتلفيقُ الذى يُنسَبُ إلى الرسلِ عليهم السلام، مع أنّهم براءٌ منه..
 وهذا الغلوُّ فى إنكارِ الآخرِ واحتكارِ الخلاصِ، لا ينجو منه الواقفون فى خندقٍ واحد، فبعد أن يُلغوا الآخرين، يبدؤون بإلغاء بعضِهم بعضاً، كُلٌّ يتعصّبُ لإطارٍ أضيقٍ يُنكرُ -من خلالِه- على الآخرين إطارَهم الذى أطّروا أنفسَهم به..

وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» (البقرة: 113.

ففى قولِه تعالى «كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ»، بيانٌ أنّ إلغاء الآخر واتّهامَهُ بأنّه ليس على شىء يُخرجُ الإنسانَ من ساحة العلم، وبالتالى يُدخلُه فى دياجير الظلام..

إذن.. التطرّفُ غُلوٌّ يبدأُ بإلغاءِ الآخرين عبر ساحةٍ مُعيّنة، ليمتدّ إلى ساحاتٍ أضيقَ داخل تلك الساحة، وبالتالى شرذمةُ الأمّةِ إلى مذاهب وطوائفَ وفرقٍ يُلغِى كُلٌّ منها الآخر.. ولمّا كانت مادّةُ هذا التشرذمِ نصوصًا تاريخيّةً تُقَدَّمُ على أنَّها من جوهرِ منهجِ الله تعالى، بعدَ تلفيقِها ونسبِها إلى الرسلِ عليهم السلام، فإنّ هذا التطرّفَ -فى حقيقتِه- شركٌ بالله تعالى، من خلالِ تقديم التاريخ برواياتِه ورجالاتِه وأصنامِه الفكريّةِ، منهجًا بديلاً عن منهج الله تعالى.. وهذا ما نراه جليًّا فى قولِه تعالى: وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» (الروم: 31– 32.
هذا الغلوُّ والتطرّفُ وما يُنتجُه مِنْ تجزئةِ أبناءِ الدين الواحد إلى مذاهبَ وطوائفَ متناحرة، يجعلُ مِنْ أبناء الدين ذاتِه المنتمين إلى مذهبٍ آخر أو طائفةٍ أُخرى -يجعل منهم- أكثرَ عداوة حتى مِن أبناء الأديان الأخرى، وبالتالى يدفعون من دمائهم ومستقبلهم نتيجةَ -هذا التطرّف- ثمنًا باهظًا، أكثر بكثير ممّا يدفعهُ أبناءُ الأديان الأخرى.. والحروبُ الدينيّة -فى أوروبا- بين أبناء الدين الواحد لأكبرُ دليلٍ على ذلك..
       وفى تاريخ المُسلمين وتفاعلِهم معَ الفِكْرِ المحسوب على الإسلام، نرى الأمرَ ذاتَه، فنرى صورةً مُطابقةً تمامًا لما حدثَ معَ أهل الكتاب.. ففى حين أنّ أهلَ الكتاب زعموا احتكار الخلاص: «وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى»، نرى الكثير من المُسلمين يزعمون أيضًا أنّ الجنّةَ -بعد مبعث الرسول محمّد، صلى الله عليه وسلم، حِكرٌ على المُسلمين، مُعرضين عن الدلالاتِ الواضحةِ وضوح الشمسِ وسط النهار فى قولِه تعالى: لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (١٢٣) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا» (النساء: 123– 124).

وفى حين أنّ أهلَ الكتاب زعموا عدمَ الخلودِ فى النار لمن يدخلُ منهم النار: «وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً» (البقرة: 80)، زعمَ المُسلمونَ الزعمَ نفسَه، عبر تلفيق كثير من الروايات ونسبها إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، مُعرضين عن دلالاتِ كثير من آياتِ كتابِ الله تعالى التى تنقضُ ما يذهبون إليه..

وفى حين تشرذمَ أهلُ الكتاب إلى الكثير من الطوائف والمذاهب المتناحرة التى يفتكُ بعضُها ببعض، نرى الأمرَ ذاتَه بين المذاهب والطوائف الإسلاميّة التى يُخطِّئُ بعضُها بعضًا.. يقولُ تعالى واصفاً هذه السُّنّةُ البشريّة: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ» (الحشر14).

       إذن.. التطرّفُ بماهيّتِه المُجرّدة ليس له دينٌ مُحدَّدٌ، ولا قوميّةٌ مُحدَّدة، لأنّهُ من صناعة أهواءِ البشر وعصبيّاتِهم، ولا علاقةَ له بدينِ الله تعالى..
 والفكرُ المُتطرّفُ ليس منهجيًّا بالمعنى الحقيقىِّ للمنهجيّةِ العلميّة فى التفكير، وهذا أمرٌ طبيعىٌّ كونَهُ فِكرًا جمعيًّا مبنيًّا من لَبنات التاريخ وأساطيرِه التى تُقدَّم على أنّها عينُ مُرادِ الله تعالى، فالمنهجيّةُ العلميّةُ فى التفكير، والتى تعتمدُ على ثنائيةِ القرآنِ الكريم والعقلِ المُجرّد عن أصنامِ التاريخ، تُسقِطُ الكثيرَ من أسس التطرّف، وتُفقدُهُ هُويّتُه، ولذلك فالفكرُ المتطرّفُ يُقاومُ العقلَ والتدبُّرَ حتّى لكتاب الله تعالى (القرآن الكريم)، وهذا ما نراه من حربٍ شعواء يشنُّها المتطرّفون على كُلِّ فِكْرٍ جديد، لِمُجَرَّدِ أنّه جديد..
 .. والقاسم المشترك فى الفِكر المُتطرِّف عند جميع الأمم -دون استثناء- يتجسّدُ فى تصوّرِ مؤامرةٍ مُستمرّةٍ مِنْ عدوٍّ يتمُّ تحميلُهُ مسؤوليّةَ الفشل، ويُستخدمُ كمانعةِ صواعق، للحيلولة دون انهيار منظومة الفِكر المُتطرّف من جهةٍ، ويُستخدمُ كذريعةٍ للهروبِ من الاستحقاق العقلى والواقعى والموضوعى، وذلك من خلال اتّهام أصحاب العقل والموضوعيّة بالكفر والعمالة..

نحن لا نُنكرُ وجودَ المؤامرات التى تُحاكُ ضدَّ هذه الأمّة، وضدَّ أىّ أُمّة، فمن البديهىِّ أن يتآمر العدوُّ على عدوّه، ولكن المُشكلة تكمنُ فى كوْنِ الفِكر المتطرّف لا يرى الأمورَ والأشياء كنتيجة موضوعيّة للمقدّمات..

فالمتطرّفُ يسمعُ ما يُريد، ويرى ما يُريد، ويزيدُهُ تطرُّفاً المتطرّفون فى الجانب الآخر، مِمّا يُفرزُ حالةً مِنَ الفعلِ وردِّ الفعل، تُغرقُ المجتمعَ فى أوحال ذلك التطرّف، لدرجةٍ يُلغى فيها العقلُ تمامًا، وَتُصَمُّ فيها الآذان، ويصبحُ المتنوّرُ غريبًا ومُتّهمًا بالكفرِ والعمالة..

وإلاّ كيف بنا أنْ نُفسّرَ الاقتتال الذى نراه بين الأشقاء فى كثير من البلدان  الإسلامية؟ وكيف بنا أنْ نُفسّرَ تكفيرَ من يُؤمنُ بالقرآن الكريم ويقومُ بأركان الإسلام مجتمعة؟ وكيف بنا أنْ نُفسّرَ تفجير بيوتِ العبادة ومدارسِ الأطفال وأسواقِ الباعة؟
كُلُّ ذلك إنّما حصل ويحصل نتيجةَ المتاجرة بالدين، ونتيجة عدم فصل الدين عن السياسة، ونتيجةَ الاستخفاف بعقول العوام، عبرَ دفعهم نحو الهاويّة التى تحرقُهم -فى الدنيا والآخرة- وذلك تحتَ قناعِ الدين والدفاع عنه، وكأنّ دينَ الله تعالى لا يستقيمُ إلاّ بقتل الآخرين.. فكلٌّ يصنعُ من رواياتِه وبعضِ رجالاتِ التاريخ وبعضِ مشايخه أصنامًا مُقدّسةً، من يقتربُ منها يستحقُّ الموت، وبالتالى هو ذاتُه يُوضَعُ فى ساحة استحقاق الموت من وجهةِ نظر متطرّفٍ آخر فى الجانب الآخر، لأنّه لم يُقدّسْ أصنام التاريخ لذلك الآخر..
من هنا نرى أهميّةَ فصلِ الدينِ عن السياسة، وفصلِ السياسةِ عن الدين، وأهميّةَ المساواةِ فى المواطنة والحقوق والواجبات بين أبناء الوطن الواحد، مهما كانت انتماءاتُهم الدينيّة والمذهبيّة.. وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا» (النساء: 93).

لو أنّهم يؤمنون بهذه الآياتِ الكريمة، إيمانًا صادقًا يخشعون به لقولِ الله تعالى، ولو أنّهم يسمعون دلالاتِها الواضحةَ، بعيدًا عن التفسيرات التاريخيّة، لعرفوا الحقّ.. ولو أنّهم استخدموا عقولَهم والفطرةَ النقيّةَ التى فطرَ الله تعالى الناس عليها لعرفوا ذلك الحقّ..
فالإصغاءُ إلى كتاب الله تعالى دونَ أصنام التاريخ، ودونَ فرضِ التفسيرات الفاسدة وروايات التاريخ على دلالات آياتِه، أو استعمالُ العقلِ بعيدًا عن أوهام تلك الأصنام.. أىُّ من هذين السبيلين، يدفعُ الإنسانَ إلى عِلْمِ الحقيقة، وبالتالى يُخرجُه من سعيرِ التطرّف الأعمى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ» (الملك: 10)