الاثنين، 3 يوليو 2017

تفسير سورة العاديات كتبه المهندس/ عدنان الرفاعى







كتبه المهندس/ عدنان الرفاعى.
بسم الله الرحمن الرحيم..

التفسير الموروث لسورة العاديات لا يتَّكئ على أيِّ منهجيّة علميّة تعتمد على الصياغة اللغويّة للنصِّ القرآني ، ولذلك ابتعد – هذا التفسير – عن حقيقة الدلالات المحمولة بالعبارات القرآنيّة في هذه السورة الكريمة ..  
واستغلَّ بعضهم هذا الشطط في تفسير هذه السورة الكريمة للإساءة لكتاب الله تعالى ، معتبرين شطط الموروث التفسيري على أنَّه عين ما يعنيه كتاب الله تعالى ، مقدِّمين هذا الشطط مادَّة يريدون سكبها في قوالب التشكيك بمصداقيّة كتاب الله تعالى ..
سنقف – إن شاء الله تعالى – عند عبارات هذه السورة الكريمة لنشهد عظمة صياغتها اللغوية وما تحمله من دلالات ..
وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ضَبۡحً۬ا (١) فَٱلۡمُورِيَـٰتِ قَدۡحً۬ا (٢) فَٱلۡمُغِيرَٲتِ صُبۡحً۬ا (٣) فَأَثَرۡنَ بِهِ نَقۡعً۬ا (٤) فَوَسَطۡنَ بِهِۦ جَمۡعًا (٥) إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ۬ (٦) وَإِنَّهُ ۥ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَہِيدٌ۬ (٧) وَإِنَّهُ ۥ لِحُبِّ ٱلۡخَيۡرِ لَشَدِيدٌ (٨)  أَفَلَا يَعۡلَمُ إِذَا بُعۡثِرَ مَا فِى ٱلۡقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ مَا فِى ٱلصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّہُم بِہِمۡ يَوۡمَٮِٕذٍ۬ لَّخَبِيرُۢ (١١)  [ العاديات : 1 – 11 ]
  كلمة : وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ هي جمع العادية ، والعادية من الجذر ( ع ، د ، و )، ومن الفعل ( عدا ) دون تعدّي بالهمز أو التضعيق .. ومشتقات الجذر ( ع ، د ، و ) في كتاب الله تعالى لا تعني مجرَّد الجاريات بسرعة ( الخيل - الإبل ....... ) كما هو في عرفنا اللغوي البعيد عن دلالات كتاب الله تعالى ، إنّما تعني : تجاوز فعل العادي للساحة الموجود بها كساحة ينتمي إليها ، إلى ساحة أُخرى ..
 ففي قوله تعالى التالي نرى دلالات كلمة ) وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّہُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُ ۥ‌ۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡہُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا‌ۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُ ۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَٮٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُ ۥ فُرُطً۬ا [ الكهف : 28 ]
.. وهذا ما نراه في كلمة : ) تَعۡدُ ( في قوله تعالى التالي ، حيث أنَّها في سياقٍ قرآنيٍّ  يُصوِّر – بمجمله - تجاوز الحدود المسموح بها ..  
) ................................ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن ڪَانُوٓاْ أَنفُسَہُمۡ يَظۡلِمُونَ (١٦٠)وَإِذۡ قِيلَ لَهُمُ ٱسۡكُنُواْ هَـٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ وَڪُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ وَقُولُواْ حِطَّةٌ۬ وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدً۬ا نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطِيٓـَٔـٰتِڪُمۡ‌ۚ سَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡہُمۡ قَوۡلاً غَيۡرَ ٱلَّذِى قِيلَ لَهُمۡ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِجۡزً۬ا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا ڪَانُواْ يَظۡلِمُونَ (١٦٢) وَسۡـَٔلۡهُمۡ عَنِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلَّتِى ڪَانَتۡ حَاضِرَةَ ٱلۡبَحۡرِ إِذۡ يَعۡدُونَ فِى ٱلسَّبۡتِ إِذۡ تَأۡتِيهِمۡ حِيتَانُهُمۡ يَوۡمَ سَبۡتِهِمۡ شُرَّعً۬ا وَيَوۡمَ لَا يَسۡبِتُونَ‌ۙ لَا تَأۡتِيهِمۡ‌ۚ ڪَذَلِكَ نَبۡلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ (١٦٣)وَإِذۡ قَالَتۡ أُمَّةٌ۬ مِّنۡہُمۡ لِمَ تَعِظُونَ قَوۡمًا‌ۙ ٱللَّهُ مُهۡلِكُهُمۡ أَوۡ مُعَذِّبُہُمۡ عَذَابً۬ا شَدِيدً۬ا‌ۖ قَالُواْ مَعۡذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ  (١٦٤) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُڪِّرُواْ بِهِۦۤ أَنجَيۡنَا ٱلَّذِينَ يَنۡہَوۡنَ عَنِ ٱلسُّوٓءِ وَأَخَذۡنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِۭ بَـِٔيسِۭ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ (١٦٥)  [ الأعراف : 160 – 165 ]
 
.. السياق المحيط بالعبارة القرآنيّة : ) يَعۡدُونَ فِى ٱلسَّبۡتِ ( ، يصوِّر تجاوز قوم موسى عليه السلام وتعدّيهم لما يتوجَّب عليهم عدم تعدّيه .. فكما أنَّ تبديلهم للقول الذي قيل لهم : ) فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡہُمۡ قَوۡلاً غَيۡرَ ٱلَّذِى قِيلَ لَهُمۡ ( ، هو تجاوز لما يجب عليهم ألاَّ يتجاوزوه ، فإنَّ المعنى المحمول في العبارة القرآنيّة : ) يَعۡدُونَ فِى ٱلسَّبۡتِ ( ، هو تجاوز سلبي لما يجب عليهم ألاَّ يتجاوزوه ، ولذلك كانت تلك الحيتان تأتيهم يوم سبتهم ، كابتلاء من الله تعالى لهم ، لأنَّ صيدها – في يوم سبتهم - هو تجاوز للحدود التي عليهم ألا يتجاوزوها : ) ڪَذَلِكَ نَبۡلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ  ( .. ولذلك .. نرى أنَّ نهاية النصِّ تبيِّن لنا أنَّ العذاب الذي أُخذوا به ، هو نتيجة فسقهم :  ) وَأَخَذۡنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِۭ بَـِٔيسِۭ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ .. ومن فسقهم ، تجاوزهم للحدود التي عليهم ألاَّ يتجاوزوها :  ) يَعۡدُونَ فِى ٱلسَّبۡتِ (
 إذاً .. قوله تعالى : ) يَعۡدُونَ فِى ٱلسَّبۡتِ  ( ، تعني : يتجاوزون الحدود التي كان عليهم ألاَّ يتجاوزوها في السبت ، وليس مجرَّد التحرّك الإيجابي .. وهذا ما نراه جليّاً في الأمر الإلهي لهم : ) وَقُلۡنَا لَهُمۡ لَا تَعۡدُواْ فِى ٱلسَّبۡتِ (، والذي خالفوه ، حيث هذه العبارة في سياقٍ محيطٍ يؤكِّد هذه الحقيقة ..
يَسۡـَٔلُكَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَـٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيۡہِمۡ كِتَـٰبً۬ا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ‌ۚ فَقَدۡ سَأَلُواْ مُوسَىٰٓ أَكۡبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوٓاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهۡرَةً۬ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ بِظُلۡمِهِمۡ‌ۚ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَـٰتُ فَعَفَوۡنَا عَن ذَلِكَ‌ۚ وَءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ سُلۡطَـٰنً۬ا مُّبِينً۬ا (١٥٣) وَرَفَعۡنَا فَوۡقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَـٰقِهِمۡ وَقُلۡنَا لَهُمُ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدً۬ا وَقُلۡنَا لَهُمۡ لَا تَعۡدُواْ فِى ٱلسَّبۡتِ وَأَخَذۡنَا مِنۡہُم مِّيثَـٰقًا غَلِيظً۬ا (١٥٤)فَبِمَا نَقۡضِہِم مِّيثَـٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بِـَٔايَـٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقٍّ۬ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢ‌ۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيۡہَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً۬ (١٥٥)  [ النساء : 153 – 155 ] 
 ومن هنا كانت كلمة : ) عَدُوٌّ۬‌ۖ ( تعني : المتجاوز لحدوه إلى حدود من هو عدوٌّ له ..
) فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَـٰنُ عَنۡہَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ‌ۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوٌّ۬‌ۖ وَلَكُمۡ فِى ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرٌّ۬ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ۬   (  [ البقرة : 36 ]   
) يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى ٱلۡأَرۡضِ حَلَـٰلاً۬ طَيِّبً۬ا وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٲتِ ٱلشَّيۡطَـٰنِ‌ۚ إِنَّهُ ۥ لَكُمۡ عَدُوٌّ۬ مُّبِينٌ [ البقرة : 168 ] 
 وهذا الذي بيّناه – حتى الآن – من مشتقّات الجذر ( ع ، د ، و ) ، يتعلَّق بالمخلوقات العاقلة ، ككائنات تختار هي تجاوز حدودها إلى حدود غيرها ، تجاوزاً سلبيّاً .. وهذا التجاوز السلبي ناتجٌ عن السلبيّة في ذوات هذه الكائنات ، فالسلبيّة لا تعود للتجاوز إلى ساحة الآخر كتجاوز ، وإنّما تعود لكون هذا التجاوز سلبيّاً .

 وهذه الدلالات المجرَّدة لهذا الجذر اللغوي ( ع ، د ، و ) ، عندما تتعلَّق بالله تعالى ، فإنَّها تتعلَّق بصفات الذات الإلهيّة ، والتي تستحيل عليها السلبيّة .. )مَن كَانَ عَدُوًّ۬ا لِّلَّهِ وَمَلَـٰٓٮِٕڪَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبۡرِيلَ وَمِيكَٮٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ۬ لِّلۡكَـٰفِرِينَ [ البقرة : 98 ]

 هنا العبارة القرآنيّة : ) فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ۬ لِّلۡكَـٰفِرِينَ)، لا تحمل سلبيّةً في كون الله تعالى عدوَّاً للكافرين .. أبداً .. فالكافرون ليسوا على حقٍّ في كفرهم،  وهم مَن تجاوز في عمله الحدود المسموحة له، والله تعالى ليس كأيِّ آخر بالنسبة لهم ــ أليس ربّهم ــ ؟ ــ أليس من يعطيهم حيثيّات وجودهم في كلِّ لحظة  ــ؟ ومن هنا، فإنَّ عداوة الله تعالى لهم : (فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ۬ لِّلۡكَـٰفِرِينَ ( ، بمعنى : لن يدعهم يفلحوا فيما يتحرّكون به جحوداً وإساءة وظلماً .. بمعنى : أنَّه مؤثِّر ومثبِّط لهم في ساحة تحرّكهم ، فهو الحيُّ القيّوم ، وفاعل وليس مفعولاً به  ومن الجهل إسقاط تعلَّق المخلوقات بدلالات الجذر ( ع ، د ، و ) على الله سبحانه وتعالى ..
           بعد هذه المقدِّمة البسيطة ، لما تحمله مشتقّات الجذر ( ع ، د ، و )، ممَّا تحمل من دلالات، لنعد إلى الكلمة الأولى في السورة الكريمة ، التي نحن بصدد تفسيرها، وهي كلمة: )وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ).
  العاديات هي جمع لكلمة : العادية ( على وزن فاعلة ) ، بمعنى : جمع لحالة القيام بتجاوز الحدود المسموح بها .. فالعادية ليست ذاتاً مؤنَّثة ( عاقلة أو غير عاقلة ) ، إنّما هي حالةٌ لتجاوز الحدود المسموح بها ، تقوم بها ذاتٌ عاقلة  مختارة تملك خيار عدم القيام بها .. وما نراه أنَّ الله تعالى لم يقل : ( والمُعدِيات ) إنّما يقول ) وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ( ..
وأقرب كلمة لكلمة : ) ٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ) كجمع  لكلمة : (العادية ) ، هي كلمة : ) ٱلۡعَادُونَ)
) وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَـٰفِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٲجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَـٰنُہُمۡ فَإِنَّہُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٲلِكَ فَأُوْلَـٰٓٮِٕكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ (7) ( [ المؤمنون : 5 - 7 ]
.. هنا نرى أنَّ كلمة ) ٱلۡعَادُونَ ( ، هي جمع لأفراد لا يحفظون فروجهم ، أي : جمع لأفراد يتجاوزون – في هذا الفعل – ما هو مسموح لهم .. وفي كلمة :ٱلۡعَادُونَ  نحن أمام جمع مذكّر سالم .. ومع ذلك .. فالأفراد المعنيّون، يقومون بهذا التجاوز كفعل – يتجاوزون به ما هو مباح لهم - في أوقات معيّنة ، وليس ذلك فعلاً مستمرَّاً على كامل زمن حياتهم .. وهذا ما نراه أيضاً في قوله تعالى :
أَتَأۡتُونَ ٱلذُّكۡرَانَ مِنَ ٱلۡعَـٰلَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّنۡ أَزۡوَٲجِكُم‌ۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٌ عَادُونَ (١٦٦([ الشعراء : 165 - 166 ]
           وكلمة ( العادية ) كمفرد للجمع المؤنَّث السالم : ) وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ( ، نرى تعلّقها بالحالة وليس بذات مؤنَّثة ( عاقلة أو غير عاقلة ) أكثر وضوحاً وجلاء .. وهذا ما سنراه – إن شاء الله تعالى – في تناولنا لتفسير عبارات هذه السورة الكريمة ..  
في الآية الكريمة : وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ضَبۡحً۬ا   نرى أنَّ الواو هو حرف قسم وجر ، وكلمة العاديات مجرورة بواو القسم ، والجار والمجرور متعلّقان بفعل القسم المحذوف ، وكلمة : )ضَبۡحً۬ا )  هي مفعول مطلق لفعل محذوف .. ويكون تقدير الكلام : والعاديات تضبح ( هي) ضبحاً ، وجملة : ( تضبح ضبحاً) هي حال من العاديات ، بتقدير : والعاديات حال كونهن ضابحات.
 وهنا، سنقف عند مفهوم القَسَم كما يبيّنه لنا كتاب الله تعالى .. فالقَسَم يتكوَّن – إضافة للمُقْسِم - من : مُقسَم به ، ومُقسَم عليه .. وهنا علينا أن نميِّز بين هذا المفهوم للقسم حينما يتعلَّق بالبشر من جهة ، وبينه حينما يتعلَّق بالله تعالى.
بالنسبة لنا نحن البشر ..
1 – المُقسَم به ، هو ما نقرُّ بأنَّه أعظم منَّا ، ونريد جعله شاهداً علينا ومعاقباً لنا ومنقِصاً من قيمتنا ، إن لم نكن صادقين بصحّة قولنا عن المُقسَم عليه الذي نريد إثباته ..
2 – المُقسَم عليه ، هو ما نريد إثباته عبر القسم ، وبأنَّنا صادقون في قولنا عنه ..
هذه هي حقيقة القسم بالنسبة لنا نحن البشر ، ولذلك نرى أنَّ القرآن الكريم يأتي بكلمتي [ )أقسمتم  ، أقسموا  ] المتعلّقتين بالبشر دون أن تُسبقا بكلمة (لا) . فالقسم هنا قَسمٌ كامل ، وفق المفهوم المتعلِّق بالبشر
 وكلمتا : [ أقسمتم وأقسموا] المتعلّقتان بالبشر وبهذه الصيغة ، تردان في كتاب الله تعالى  (8 ) مرّات ..
أمَّا بالنسبة لله تعالى، فإنَّ كلمة (أُقسم ) العائدة إلى الله تعالى ترد أيضاً ( 8 ) مرّات ، ولو نظرنا إلى كلمة (أُقسِم ) العائدة إلى الله تعالى لرأينا أنّها تأتي في القرآن الكريم مسبوقةً دائماً بكلمة لاَ ( .. دائماً .. فما الحكمة من اقتران كلمة أُقسم المرتبطة بالله تعالى بكلمة ( لاَ) التي تفيد النفي ؟ ..
1 – من زاوية المُقسَم عليه ، فإنَّ الله تعالى يريد أن يُثبت لنا صحّة المُقسَم عليه ..
2 – من زاوية المُقسَم به ، فإنَّ المسألة تُخالف مسألة القسم بالنسبة للبشر .. إنَّ المُقسَم به لنا البشر هو أعظم من صاحب القسم ، أمّا بالنسبة لله تعالى فلا وجود للقسم من هذه الزاوية ، لأنّه لا شيء أعظم من الله تعالى .. وهكذا نرى أنَّ القسم ( المتعلّق بالله تعالى ) من هذه الزاوية ، ليس قسماً كقسمنا الذي نقسم به ..

فمسألة القسم عندما ترتبط بالله تعالى ، تعني : أنَّه لا يُوجَد ما هو أعظم من الله تعالى ليُقسم به من أجل إثبات صحّة المقسَم عليه ، وأنَّ المقسَم عليه ثابت دون الحاجة للقسم ، كون القائل هو الله تعالى .. ولذلك فالقسم المرتبط بالله تعالى هو من زاوية إثبات صحّة المقسم عليه يفيد معنى القسم ، ومن زاوية المُقسم به ليس قسماً .. هذا هو عمق الحقيقة التي يصوّرها لنا القرآن الكريم عبر اقتران كلمة : ) أُقۡسِمُ المرتبطة بالله تعالى بكلمة )لَا (
) فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَوَٲقِعِ ٱلنُّجُومِ [ الواقعة : 75 ]
) فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَا تُبۡصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبۡصِرُونَ (٣٩ (  [ الحاقّة : 38 – 39 ]
) فَلَآ أُقۡسِمُ بِرَبِّ ٱلۡمَشَـٰرِقِ وَٱلۡمَغَـٰرِبِ إِنَّا لَقَـٰدِرُونَ [ المعارج : 40 ]
) لَآ أُقۡسِمُ بِيَوۡمِ ٱلۡقِيَـٰمَةِ (١) وَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلنَّفۡسِ ٱللَّوَّامَةِ (٢  (  [ القيامة : 1 – 2 ]
) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ(15)  الْجَوَارِ الْكُنَّسِ  [ التكوير : 15 – 16 ]
) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (  [ الانشقاق : 16 ]  
) لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (  [ البلد : 90 ]
           إذاً .. مفهوم القسم المتعلِّق بالله تعالى ، لا يُقارن بمفهوم القَسم المتعلِّق بالبشر .. ففي حين أنَّ مفهوم القَسَم المتعلِّق بالبشر يعني وضع المُقسَم به شاهداً ومعاقِباً ومنقِصاً من قيمة المُقسِم ، إن لم يكن المُقسِم صادقاً بصحَّة قسمه ، فإنَّه لا وجود لقسمٍ يتعلَّق بالله تعالى وفق هذا المفهوم .. إطلاقاً .. فالله تعالى لا يُوجد ما هو أعظم منه ، وقوله جلَّ وعلا ثابت وصادقٌ ومطلق دون الحاجة للقسم.
ما نسمّيه مجازاً واصطلاحاً بشريّاً بقسم مُتعلِّق بالله تعالى ، هو وَضْع الله تعالى للمقسَم به كدليلٍ نعلمه ، من أجل إثبات المُقسَم عليه ، حيث هناك – دائماً – رابطة وثيقة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه .. بمعنى : هذا الذي تعلمونه ( المُقسَم به ) يتعلَّق به المُقسَم عليه .. لذلك .. فالمُقسَم به أمرٌ معلومٌ بالنسبة لنا ، يضعه الله تعالى لنا لإثبات صحّة المُقسَم عليه ، حيث هناك رابطة بينهما .. ولا يُشتَرط بالمُقسَم به إلاَّ ذلك ..
.. لذلك .. فقولنا الاصطلاحي الوضعي بأنَّ الواو في كلمة : ) وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ( هو حرف قسم وجر ، وأنَّ كلمة ٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ مجرورة بواو القسم ، والجار والمجرور متعلّقان بفعل القسم المحذوف ، لا يعني محاكاةً لمفهوم القسم حينما يتعلَّق بالبشر، ولا يعني حتميّة كون المُقسَم به أمراً إيجابيّاً .. أبداً .. كلُّ ما يُشترَط في المُقسَم به ، أن يكون الدليلَ المعلوم كمقدِّمة مشهودة بالنسبة لنا، يتمُّ من خلالها إثبات حقيقة المُقسَم عليه ..
.. وهذه الصيغة المعرَّفة بأل التعريف للمُقسَم به : ) وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ  ( ، كجمع مؤنَّث سالم لاسم فاعل هو ( العادية ) ، ليست جمعاً لذوات محدَّدة بعينها، وإنّما هي جمعٌ لحالات من الممكن أن تفعلها عدّة ذوات .. والقسم ليس بهذه الحالات كمجرَّد صفات مجرَّدة عن حركة الفعل المتولّد عنها ، وإنّما هو قسم بها حال كونها تفعل في إطار صفة الحالة المعنيّة ( العادية ) ، بمعنى : وأقسم بالعاديات حال كونها تضبح ضبحاً .. فالقسم ليس بالعاديات ، وإنّما بالعاديات حال كونها تضبح ضبحاً ..
            وتعريف العاديات ) وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ( بأل التعريف له دلالته في كتاب الله تعالى ، فبالنسبة للبشر ، حالات تجاوز المسموح به إلى غيره ، هي حالات معلومة مبيَّنة في كتاب الله تعالى في ظاهر دلالاته وباطنها ، فكلُّ ما ينهى الله تعالى عن تجاوزه وتعدّيه مشمولٌ بكلمة العاديات ..
  إذاً .. المُقسَم به ) وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ، هو الحالات التي يتمُّ فيها تجاوز المسموح به إلى غيره ، كونه خروجاً على مراد الله تعالى وأوامره التي بيَّنها للبشر ..
.. وكلمة ) ضَبۡحً۬ا ( هي المشتق الوحيد للجذر ( ض ، ب ، ح ) في كتاب الله تعالى ، ولذلك لا بدَّ من مقاربة المعنى من السياق القرآني المحيط .. ولا بأس من النظر في قواميس اللغة للبحث عن رابط معنى له تعلّقه بهذا السياق ، فهذه الكلمة ) ضَبۡحً۬ا ( هي كلمة من كتاب الله تعالى ، الذي أنزله الله تعالى في أمّةٍ أميّة ، حافظت على المفردات الفطريّة ، من عصر آدم عليه السلام إلى عصر النبيِّ (ص) ، حيث نزل القرآن الكريم بصياغة لغويّة من الله تعالى ، بهذه المفردات الفطريّة ذاتها ، كما بيَّنت في كتبي وبرامجي ..  
.. ورد في معجم لسان العرب :
[[ .. ضَبَحَ العُودَ بالنار يَضْبَحُه ضَبْحاً أَحرق شيئاً من أَعاليه ، وورد أيضاً : والمَضْبوحةُ حجارة القَدّاحَةِ التي كأَنها محترقة ، وورد أيضاً : والمَضْبُوحُ حجر الحَرَّة لسواده ، والضِّبْحُ الرَّمادُ وهو من ذلك الأَزهري أَصله من ضَبَحته النار وضَبَحَتْه الشمسُ والنار تَضْبَحُه ضَبْحاً فانْضَبَحَ لَوَّحته وغيَّرته وفي التهذيب وغَيَّرَتْ لونَه ، وورد أيضاً : والانْضِباحُ تغير اللون ، وقيل ضَبَحَتْهُ النارُ غيرته ، وورد أيضاً : وانْضَبَحَ لونُه تغير إلى السواد قليلاً ، وورد أيضاً : وضَبَحَت الخيلُ في عَدْوِها تَضْبَحُ ضَبْحاً أَسْمَعَتْ من أَفواهها صوتاً ليس بصهيل ولا حَمْحَمَة ، وقيل تَضْبَحُ تَنْحِمُ وهو صوت أَنفاسها إِذا عدون .. ]] ..
 إذاً .. الضبح ( استنباطاً من روح النصِّ واستئناساً ببعض ما تحمله قواميس اللغة ) بمعناه المجرَّد ، هو تغيُّر الحال والابتعاد عن الحالة الطبيعيّة باتجاه السواد والاجهاد وفقدان الطبيعة النقيّة الصافية ..
.. من هنا نرى أنَّ القَسَم هو بالحالات التي يتمُّ فيها تجاوز النفس للمسموح به إلى غيره ، تجاوزاً تتغيَّر به النفس إلى حالٍ تبتعد به عن طبيعتها باتجاه السواد وتغيّر الطبيعة النقيّة الصافية .. فكلُّ حالة تعدٍّ يقوم بها الإنسان لما ينهى الله تعالى عنه ، تغيِّره في نفسه وحاله نحو السواد وفساد طبيعته التي فطره الله تعالى عليها .. هذه الحالات من التعدّي لكلِّ ما نهى الله تعالى في كتابه الكريم ، والتي تغيِّر نقاء النفس وحالها وصفاءها باتّجاه الابتعاد عن الفطرة النقيّة نحو الظلام والسواد ، هذه الحالات هي المُقسم به في الآية الأولى من هذه السورة الكريمة ) وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ضَبۡحً۬ا.. الآية الكريمة : ) فَٱلۡمُورِيَـٰتِ قَدۡحً۬ا  ( ، تبتدأ بالفاء ، وورود حرف الفاء دون حرف الواو له دلالته في كتاب الله تعالى ، فإضافة لعطف الحالة المحمولة بهذه الآية الكريمة على الحالة المحمولة بالآية السابقة ، ولدلالة الترتيب والتعقيب المباشر ما بين هاتين الحالتين ، إضافة لذلك ، نستشفُّ أنَّ دلالات هذه الآية الكريمة )فَٱلۡمُورِيَـٰتِ قَدۡحً۬ا ( هي نتيجة لدلالات الآية الكريمة السابقة لها ) وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ضَبۡحً۬ا ( ..
.. وكلمة ) فَٱلۡمُورِيَـٰتِ ( ، هي جمع المُورِية ، وهي من الجذر : ( و ، ر ، ي ) على وزن مُفعِلات ، من الفعل المتعدّي بالهمز ( أورى ) .. فالله تعالى لم يقل : ( فالواريات ) على وزن : ) وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ( ، إنما يقول ) فَٱلۡمُورِيَـٰتِ ( ..
           وكون كلمة المُورِيات من الفعل المتعدّي بالهمز ( أورى ) ، وكون الإخفاء تقوم به المُورِيات كفعل ، هذا يدفعنا للقول : إنَّ كلمة ) قَدۡحً۬ا ( هي مفعول به لفعل محذوف تقديره تُوري ، بمعنى : فالمُورِيات تُوري قدحاً .. وجملة ( تُوري قدحاً ) هي حال من المُورِيات ، بتقدير : والمُورِيات حال كونها تُوري قدحاً ..
.. وهذه الصيغة المعرَّفة بأل التعريف ) فَٱلۡمُورِيَـٰتِ ( كجمع مؤنَّث سالم لاسم فاعل هو (المُورِية ) من الرباعي المتعدّي بالهمز ( أورى ) ، وكنتيجة للحالة المحمولة بالآية السابقة، لا يمكن أن تكون جمعاً لذوات محدَّدة بعينها ، كذوات غير عاقلة وغير مختارة للفعل الذي تقوم به ، أبداً ، إنّما هي جمعٌ لحالاتٍ من الممكن أن تتَّصف بها عدَّة ذوات عاقلة مختارة .. والقسم ليس بهذه الحالات كمجرَّد صفات مجرَّدة عن حركة الفعل المتولّد عنها ، وإنّما هو قسم بها حال كونها تفعل في إطار الصفة المعنيّة ( المُورِية ) ، بمعنى : وأقسم بالموريات حال كونها تُوري قدحاً .. فالقسم ليس بالمُورِيات ، وإنّما بالمُورِيات حال كونها تُوري قدحاً  
 ومشتقات هذا الجذر ( و ، ر ، ي ) في كتاب الله تعالى ، تعني : الخفاء وعدم الظهور .. وتحمل معنى الخلف من زاوية خفائه وعدم ظهوره ... وبذلك تكون كلمة : )فَٱلۡمُورِيَـٰتِ  ( بمعنى : فالمُخْفِيَات ..
 وكلمة ) قَدۡحً۬ا ( هي من الجذر ( ق ، د ، ح ) ، وهذه الكلمة ) قَدۡحً۬ا ( هي المشتق الوحيد لهذا الجذر في كتاب الله تعالى ، ولذلك لا بدَّ من مقاربة المعنى من السياق القرآني المحيط ، ولا بأس من النظر في قواميس اللغة للبحث عن رابط معنى له تعلّقه بهذا السياق ..
 ورد في معجم لسان العرب :   
[[ .. القَدَّاحُ والقَدَّاحة الحجر الذي يُقْدَحُ به النار ، وورد أيضاً : وقَدَحَ الشيءُ في صدري أَثَّر من ذلك ، وفي حديث عليّ كرم الله وجهه يَقْدَحُ الشكُّ في قلبه بأَوَّلِ عارِضةٍ من شُبْهةٍ وهو من ذلك ، واقْتَدَحَ الأَمرَ دَبَّره ونظر فيه , وورد أيضاً : وقال أَبو حنيفة القِدْحُ العُودُ إِذا بلغ فَشُذِّبَ عنه الغُصْنُ وقُطِعَ على مقدار النَّبْل الذي يراد من الطُّول والقِصَر ]] ..
ومن استشفاف المعنى من السياق القرآني نرى أنَّ قوله تعالى )  فَٱلۡمُورِيَـٰتِ قَدۡحً۬ا  ( يعني : فالمُخفِيات لأيِّ ومضة فكر وعقل من الممكن أن تُولد في ساحة فطرة النفس النقية ، سواء داخل النفس ذاتِها ، أم في نفسٍ أُخرى ..
وتعريف ) فَٱلۡمُورِيَـٰتِ( بأل التعريف له دلالته في كتاب الله تعالى ، فحالات إخفاء ومضات النور والتعقّل ، هي حالات معلومة مبيَّنة في كتاب الله تعالى في ظاهر دلالاته وباطنها ، فكلُّ حالات إخفاء ومضات النور والتعقّل مشمولةٌ بكلمة ) فَٱلۡمُورِيَـٰتِ)
.. وورود الفاء في كلمة ) فَٱلۡمُورِيَـٰتِ ( ، له دلالته التي تفيد عطف الترتيب والتعقيب ، وكون الإخفاء لأي ومضة نور وتعقّل هو نتيجة لما تحمله الآية الأولى من دلالات ، كما بيّنا .. فتجاوز النفس للحدود التي عليها ألا تتجاوزها ، وتغيّر نقائها باتجاه السواد والابتعاد عن الفطرة النقية : ) وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ضَبۡحً۬ا ( ، هو مقدّمة تؤدّي بها إلى مرحلة ثانية هي إخفاؤها لأي ومضة نور وتعقّل وتدبّر من الممكن أن تولَد ، سواء فيها أم في غيرها : ) فَٱلۡمُورِيَـٰتِ قَدۡحً۬ا)  
          الآية الكريمة : ) فَٱلۡمُغِيرَٲتِ صُبۡحً۬ا ( ، تبتدأ أيضاً بالفاء ، وكما قلنا : ورود حرف الفاء دون حرف الواو له دلالته في كتاب الله تعالى ، فإضافة لعطف الحالة المحمولة بهذه الآية الكريمة على الحالة المحمولة بالآية السابقة ، ولدلالة الترتيب والتعقيب المباشر ما بين هاتين الحالتين ، إضافة لذلك ، نستشّف أنَّ دلالات هذه الآية الكريمة )  فَٱلۡمُغِيرَٲتِ صُبۡحً۬ا  ( هي نتيجة لدلالات الآية السابقة لها ) فَٱلۡمُورِيَـٰتِ قَدۡحً۬ا ( .. فكما أنَّ الحالة المحمولة بالآية الكريمة ) وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ضَبۡحً۬ا  ( هي مقدّمة للحالة المحمولة بالآية الكريمة   ) فَٱلۡمُورِيَـٰتِ قَدۡحً۬ا ( كذلك فإن الحالة المحمولة بالآية الكريمة ) فَٱلۡمُورِيَـٰتِ قَدۡحً۬ا   ( هي مقدّمة للحالة المحمولة بالآية الكريمة ) فَٱلۡمُغِيرَٲتِ صُبۡحً۬ا  (
وكلمة ) فَٱلۡمُغِيرَٲتِ ( ، هي جمع المُغيرة ، وهي من الجذر : ( غ ، ي ، ر ) ، من الفعل المتعدّي بالهمز ... ومشتقات هذا الجذر ( غ ، ي ، ر ) في كتاب الله تعالى تعني : سوى الشيء وخلافه وبديله .. ولا تحمل كلمة ) فَٱلۡمُغِيرَٲتِ  ( معنى الهجوم على الشيء كما هو في اللغة الوضعيّة .. فكلمة ) فَٱلۡمُغِيرَٲتِ ( تعنى : فالمُبْدِلات.
وكلمة (صُبۡحً۬ا)  هي من الجذر ( ص ، ب ، ح ) .. والمعنى المجرّد لهذا الجذر اللغوي هو : اكتمال ضياء الشيء ، ومنه المصباح والمصابيح ، وأصبح بمعنى صار وانتقل لحالٍ جديد .. ولا يمكن حصر كلمة ) صُبۡحً۬ا ( بأنَّها لا تعني إلاَّ وقتاً زمنيّاً محدَّداً .. فالصبح بمعناه المجرَّد هو الحال الجديد حين اكتمال ضيائه ، ومن هنا نرى أنَّ القول : أصبح الشيء بمعنى  انتقل انتقالاً كاملاً إلى حالٍ جديد ، ولا يعني مجرَّد دخوله في وقت محدَّد هو وقت الصبح الزمني ..
)فَطَوَّعَتۡ لَهُ ۥ نَفۡسُهُ ۥ قَتۡلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ۥ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِينَ (   [ المائدة : 30 ]
) .......فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمً۬ا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَـٰحُ‌ۗ...... ( [ الكهف : 45 ]
  وكون كلمة ) فَٱلۡمُغِيرَٲتِ ( من الفعل المتعدّي ، ونتيجة للحالتين المحمولتين بالآيتين السابقتين ، فإنَّ الفعل الذي تقوم به المُغيرات هو على غيرها .. وبذلك يكون المعنى :  فالمغيرات تُبدل صبحاً .. وجملة ( تُبدل صبحاً ) هي حال من المغيرات ، بتقدير : فالمغيرات حال كونها تُبدل صبحاً ..
 وهذه الصيغة المعرَّفة بأل التعريف ) فَٱلۡمُغِيرَٲتِ ( كجمع مؤنَّث سالم لاسم فاعل هو (المُغيرة ) من الرباعي المتعدِّي بالهمز ، وكون كلمة ) فَٱلۡمُغِيرَٲتِ ( تصوِّر دلالات هي نتيجة للحالتين المحمولتين بالآيتين السابقتين ، لا يمكن أن تكون جمعاً لذوات محدَّدة بعينها ، كذوات غير عاقلة وغير مختارة للفعل الذي تقوم به .. أبداً .. إنّما هي جمعٌ لحالاتٍ من الممكن أن تتَّصف بها عدَّة ذوات ، عاقلة مختارة ..  

  والقسم ليس بهذه الحالات كمجرَّد صفات مجرَّدة عن حركة الفعل المتولّد عنها ، وإنّما هو قسم بها حال كونها تفعل في إطار الصفة المعنيّة ( المُغيرة ) ، بمعنى : وأقسم بالمُغيرات حال كونها تُبدل صبحاً .. فالقسم ليس بالمُغيرات ، وإنّما بالمُغيرات حال كونها تُبدل صبحاً ..
وهذه هي المرحلة الثالثة في الإعراض .. فبعد تجاوز الحدود عبر تعدّي حدود الله تعالى )وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ضَبۡحً۬ا( ، تأتي مرحلة إخفاء أي ومضة نور يمكنها أن تُولَد في النفس أو في غيرها لمعرفة الحقيقة والأخذ بها )  فَٱلۡمُورِيَـٰتِ قَدۡحً۬ا   ، بعد ذلك تأتي مرحلة التبديل والتغيير بالدفع إلى ساحة الخطيئة ، وتبنّيها والاستيقان بها ) فَٱلۡمُغِيرَٲتِ صُبۡحً۬ا ( ..
.. من هنا نرى أنَّ الحالة الثالثة المحمولة بقوله تعالى فَٱلۡمُغِيرَٲتِ صُبۡحً۬ا ( تعني : فالمُبدلات حقيقة جلية مضيئة .. فتجاوز الحدود التي على النفس ألاّ تتجاوزها يؤدّي إلى إخفاء الحقيقة عن النفس وغيرها ، وهذا يؤدي إلى إبدال الحقيقة مهما كانت جلية ومضيئة .. هذه هي المرحلة التي تمَّ الوصول إليها بهذه الحالات الثلاث

وقوله تعالى : ) فَأَثَرۡنَ بِهِ نَقۡعً۬ا ( ، انتقال للنتيجة التي بدأت مقدّماتها بالآية الأولى وانتهت بالآية الثالثة السابقة مباشرة ، فكلمة ) بِهِ ( تتعلَّق بالحال والموقف الذي آلت إليها النتيجة المحمولة بالآيات السابقة .. فحالات تجاوز الحدود وما يتبعه من حالات إخفاء للحقيقة وما يتبعة من حالات تبديل للنور إلى ظلام ، هذه الحالات بما وصلت إليه من حال ، أثارت بهذا الحال نقعاً .. فإثارة النقع عملٌ تقوم به النفوس التي تتجاوز الحدود ، والتي تخفي ومضات النور والحق ، والتي تُبدل النور بظلام .. 
   وكلمة ) فَأَثَرۡنَ ( مشتقّة من الجذر ( ث ، و ، ر ) ، ومن الفعل المتعدّي ( أثار ) .. وإثارة الشيء تحريكه ..
وكلمة ) نَقۡعً۬ا ( هي المشتق الوحيد للجذر ( ن ، ق ، ع ) في كتاب الله تعالى .. ولا بأس من العودة إلى قواميس اللغة العربيّة للاستئناس ، ومن ثمَّ استشفاف المعنى من السياق القرآني المحيط ..
.. ورد في معجم لسان العرب :   
[[ واسْتَنْقَعَ اجْتَمَعَ واسْتَنْقَعَ الماءُ في الغَدِيرِ أَي اجتمع وثبت ، وورد أيضاً : والنَّقْعُ مَحْبِسُ الماءِ والنَّقْعُ الماءُ الناقِعُ أَي المُجْتَمِعُ ونَقْعُ البئرِ الماءُ المُجْتَمِعُ فيها قبل أَنْ يُسْتَقَى ، وورد أيضاً : ونَقَعَ السّمُّ في أَنْيابِ الحيَّةِ اجْتَمعَ، وورد أيضاً : واسْتَنْقَعَ في الماء ثَبَتَ فيه يَبْتَرِدُ، وورد أيضاً: والنَّقْعُ رَفْعُ الصوتِ ونَقَعَ الصوتُ واسْتَنْقَعَ أَي ارْتَفَع ]] ..

 إذاً .. ما نستشفّه من قوله تعالى : ) فَأَثَرۡنَ بِهِ نَقۡعً۬ا ( ، أنَّ الحال الذي وصلت به النفس نتيجة حالات : ) وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ضَبۡحً۬ا (١) فَٱلۡمُورِيَـٰتِ قَدۡحً۬ا (٢) فَٱلۡمُغِيرَٲتِ صُبۡحً۬ا (٣) ( ، تمَّ به إثارة ثابت فكري مجتمع في النفس والذهن، وتحريكه باتجاه التبديل والتجاوز للحدود الفطريّة .
  بعد ذلك .. هذا الحال الذي وصلت به النفس نتيجة حالات ) وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ضَبۡحً۬ا (١) فَٱلۡمُورِيَـٰتِ قَدۡحً۬ا (٢) فَٱلۡمُغِيرَٲتِ صُبۡحً۬ا (٣) ، والذي تمَّ به إثارة ثابت فكري مجتمع في النفس والذهن ، وتحريكه باتجاه التبديل والتجاوز للحدود الفطريّة ) فَأَثَرۡنَ بِهِ نَقۡعً۬ا ( .. تمَّ به الانتقال إلى وسط جمعٍ لفرض هذا الحال عليه ، وهذا ما نقرؤه قي دلالات الآية الكريمة : )فَوَسَطۡنَ بِهِۦ جَمۡعًا ( .
إذاً .. الآيات المصوِّرة للمُقسَم به : ) وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ضَبۡحً۬ا (١) فَٱلۡمُورِيَـٰتِ قَدۡحً۬ا (٢) فَٱلۡمُغِيرَٲتِ صُبۡحً۬ا (٣) فَأَثَرۡنَ بِهِ نَقۡعً۬ا (٤) فَوَسَطۡنَ بِهِ جَمۡعًا (٥) ( ، تصوّر لنا ناموساً كونيّاً في حركة الابتعاد عن الفطرة النقيّة الطاهرة التي فطر الله تعالى الناس عليها ، ابتداء  بتجاوز حدود الفطرة النقيّة وما يتعلَّق به من تغيّر وتلوّن باتجاه السواد داخل النفس ، ثمّ الانتقال إلى إخفاء ومضات النور التي يمكنها أن تُولَد من رحم هذه الفطرة ، ثمَّ الوصول إلى حال تبديل الحقيقة الجليّة النيره بغيرها ، ثمَّ إثارة ثابت فكري مجتمع في النفس والذهن ، وتحريكه باتجاه التبديل والتجاوز للحدود الفطريّة .. ثمَّ الانتقال إلى وسط جمعٍ لفرض هذا الحال عليه   وبذلك تكون الصورة قد اكتملت بنقل الهوى ومحاربة الفطرة النقيّة من الذات إلى المجتمع  
           هذا الناموس الذي يختزل أسس الجحود ومحاربة الفطرة النقيّة في نفس الإنسان :  وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ضَبۡحً۬ا (١) فَٱلۡمُورِيَـٰتِ قَدۡحً۬ا (٢) فَٱلۡمُغِيرَٲتِ صُبۡحً۬ا (٣) فَأَثَرۡنَ بِهِ نَقۡعً۬ا (٤) فَوَسَطۡنَ بِهِۦ جَمۡعًا (٥)، هو المقسَم به لإثبات المُقسَم عليه : ) إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ۬ (٦) وَإِنَّهُ ۥ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَہِيدٌ۬ (٧) وَإِنَّهُ ۥ لِحُبِّ ٱلۡخَيۡرِ لَشَدِيدٌ (٨)  
          ووجه الرابط بين المُقسَم به والمُقسَم عليه واضح جلي ، فرحلة نفس الإنسان في تجاوزها للفطرة النقيّة باتجاه الجحود والابتعاد عمَّا فطر الله تعالى الإنسان عليه ، وصولاً إلى زرعها لهذه الخطيئة في وسط المجتمع الإنساني ، وهذا ما رأيناه في المُقسَم به ، بالتأكيد له تعلّقه بكون الإنسان كافراً بنعم ربّه جلّ وعلا ، مستحضراً ما يصيبه من مصائب ، ناسياً أنّه هو من يرمي نفسه في المصائب ، وهذا ما تحمله دلالات الآية الكريمة من المُقسَم عليه : ) إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ(  
.. والمُقسَم به له تعلّقه أيضاً بكون الإنسان يعيش حال هذا الجحود في حياته ، عبر حبّه للخير لنفسه ، وهذا ما تحمله دلالات الآيتين الكريمتين من المُقسَم عليه ) وَإِنَّهُ ۥ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَہِيدٌ۬ (٧) وَإِنَّهُ ۥ لِحُبِّ ٱلۡخَيۡرِ لَشَدِيدٌ   ( ..
.. ولا شكّ أنَّ كلمة : ) وَإِنَّهُ  ( في هاتين الآيتين الكريمتين تعودان إلى الإنسان ، وقول المفسِّرين بأنَّ الضمير في الآية الكريمة ) وَإِنَّهُ ۥ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَہِيدٌ۬ ) يعود إلى الله تعالى ، لا دليل عليه ، ويخالف روح السياق القرآني في هذا النصِّ الكريم ..
          كلمة ) وَإِنَّهُ ( في الآية الكريمة ) وَإِنَّهُ ۥ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَہِيدٌ ) معطوفة على قوله تعالى ) إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ ( في الآية الكريمة ) إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ(( .. بمعنى : (( وإنَّ الإنسان على ذلك لشهيد )) .. فالإنسان شهيد على كونه كافراً بنعم ربّه جلّ وعلا ، مستحضراً ما يصيبه من مصائب ، ناسياً أنّه هو من يرمي نفسه في المصائب.
وما نراه هو ورود كلمة ) لَشَہِيدٌ وليس ( لشاهد )، فكلمة شهيد على وزن ( فعيل)، ودلالاتها تقتضي الحضور والوجود في الأمر الذي تقع عليه الشهادة ، بمعنى : المباشرة والمعاينة في موضوع الشهادة ، عبر الحضور مع الأمر الذي تتمُّ الشهادة عليه في ذات إطار الوجود ..

وهذا أمر طبيعي ، فكفر الإنسان بنعم ربّه جلّ وعلا ، واستحضاره لما يصيبه من مصائب ناسياً أنّه هو من يرمي نفسه في المصائب ، كلُّ ذلك يتفاعل معه الإنسان من خلال وجوده الحسّي ، في ذات إطار الوجود الحاوي للمواضيع التي يكفر بها ويستحضر ما يصيبه من مصائب ، ناسياً أنّه هو من يرمي نفسه في تلك المصائب .. وهذا ما تصفه كلمة ) لَشَہِيدٌ ( وليس كلمة ( لشاهد ) ..

.. وفي الآية الكريمة ) وَإِنَّهُ ۥ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَہِيدٌ ( نرى ورود كلمة ) عَلَىٰ  ( التي تفيد الاستعلاء ، فالإنسان مطَّلعٌ على جحوده وإنكاره لما يجب عليه ألا يجحده وينكره ، وذلك كون هذا الجحود نابعاً منه ..  
.. وما نراه في قوله تعالى ) وَإِنَّهُ ۥ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَہِيدٌ ) هو تقديم الكلمتين ) عَلَىٰ ذَلِكَ ( على كلمة ) لَشَہِيدٌ (، فالجحود عمل الإنسان وهو فعْله الذي ينبع من ذاته ، وبالتالي يسبق أيَّ شهادة عليه ، حتى شهادته هو ذاته على ذلك .. من هنا نرى عظمة التصوير القرآني بتقديم الكلمتين ) عَلَىٰ ذَلِكَ ( على كلمة ) لَشَہِيدٌ ( ..
.. قوله تعالى ) وَإِنَّهُ ۥ لِحُبِّ ٱلۡخَيۡرِ لَشَدِيدٌ ( ، نرى فيها تكرار كلمة ) وَإِنَّهُ ( ، وفي هذا بيانٌ أنَّنا أمام مسألة أُخرى جديدة تصف حالاً من صفات الإنسان ..
  وكلمة ) ٱلۡخَيۡرِ ( من الجذر ( خ ، ي ، ر ) ، والخير ضدّ الشر ، وهو المفَضَّل والموافق للحاجة والمنفعة والفائدة المرجوة .. ومن هنا كان الاختيار بمعنى التفضيل والاصطفاء، والتخيير هو التفويض لانتقاء المُراد ، والخِيَرَةُ التفويض بالتفضيل والانتقاء ..
ولا يمكن حصر كلمة ) ٱلۡخَيۡرِ ( بالمال فقط ، فالتفضيل والحاجة والمنفعة والفائدة المرجوة للإنسان ، مسائل كثيرة ليست مقتصرة فقط على المال ..
.. وكلمة ) لَشَدِيدٌ ( من الجذر ( ش ، د ، د ) ، والشِّدَّةُ هي الصَّلابةُ ونَقِيضُ اللِّين ، وكلُّ ما أُحْكِمَ فقد شُدَّ ، وشدَدَ الشيء قوّاه وجغله ثابتاً ، والشديد القوي والصلب والراسخ ..  
.. وما نراه أنَّ الله تعالى لم يقل : ( وإنَّه لشديد حبِّ الخير ) ، فالتصوير القرآني لم يقدِّم شدّة الإنسان على حبِّ الخير ، فحبُّ الإنسان للخير نابعٌ من ذاته ابتداء وكينونة ، وتأتي الشدّة في ذلك نتيجة تفاعله مع حيثيّات الدنيا كتفاعل لاحقٍ على كينونة خلقه .. من هنا نرى عظمة التصوير القرآني في تقديم الكلمتين ) لِحُبِّ ٱلۡخَيۡرِ ( على كلمة ) لَشَدِيدٌ   ( ..
.. قوله تعالى ) أَفَلَا يَعۡلَمُ إِذَا بُعۡثِرَ مَا فِى ٱلۡقُبُورِ )، نرى فيه أنَّ الهمزة للاستفهام الإنكاري ، والفاء للعطف على مقدَّر تقديره : أيفعل ما يفعل من الجحود والإنكار وهو شهيد على ذلك ، ولا : نافية .. فيكون التقدير : ومع كلِّ ما يفعل ، لا يعلم أنَّ الله تعالى يجازيه حينما يُبعثَر ما في القبور ..
 والبعثرة قلب المُبعثَر واستخراجه واستكشافه وتفريقه وإخراج ما به ، وقد وردت في كتاب الله تعالى في نصٍّ آخر ، وجاءت – أيضا – متعلّقة بالقبور ، وبالآخرة ..

) إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتۡ (١) وَإِذَا ٱلۡكَوَاكِبُ ٱنتَثَرَتۡ (٢) وَإِذَا ٱلۡبِحَارُ فُجِّرَتۡ (٣) وَإِذَا ٱلۡقُبُورُ بُعۡثِرَتۡ (٤) عَلِمَتۡ نَفۡسٌ۬ مَّا قَدَّمَتۡ وَأَخَّرَتۡ (٥) [ الانفطار : 1 – 5 ]  
  .. وكلمة ) ٱلۡقُبُورُ ( من الجذر ( ق ، ب ، ر ) ، والقبر في كتاب الله تعالى هو مدفن الإنسان ، وجمعه قبور ، وهنا نرى جانباً معنويّاً في الأمر ، فخروج الإنسان من الحياة الدنيا إلى عالم البرزخ هو إقبار هذا الإنسان في ذلك العالَم ، فالقبر هو دفن الإنسان كنفس في عالم البرزخ .. ومن هنا نرى معنى قوله تعالى :
) قُتِلَ ٱلۡإِنسَـٰنُ مَآ أَكۡفَرَهُ ۥ (١٧) مِنۡ أَىِّ شَىۡءٍ خَلَقَهُ ۥ (١٨) مِن نُّطۡفَةٍ خَلَقَهُ ۥ فَقَدَّرَهُ ۥ (١٩) ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ ۥ (٢٠) ثُمَّ أَمَاتَهُ ۥ فَأَقۡبَرَهُ ۥ (٢١) ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ ۥ (٢٢)[ عبس : 17 – 22 ]  
  فكلمة ) فَأَقۡبَرَهُ  ( تعني وضع نفسه في قبرها في عالم البرزخ ، أي وضع الإنسان كنفس في قبره ، ولا تعني مجرَّد دفن الجسد فاقد الحياة تحت التراب ، فهناك بعض الحالات يتطاير فيها الجسد ولا يُوضَع تحت التراب ..
  ومكان دفن الجسد تحت التراب هو مقبرة ، وجمعه مقابر ، يقول تعالى :
) أَلۡهَٮٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ (١) حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ (٢(   [ التكاثر : 1 – 2 ]

 إذاً .. قوله تعالى : أَفَلَا يَعۡلَمُ إِذَا بُعۡثِرَ مَا فِى ٱلۡقُبُورِ ( يعني : مع كلِّ ما يفعل الإنسان من جحود وإنكار ومخالفة ، لا يقف على حقيقة كان عليه أن يعلمها ، هي أنَّ الله تعالى يجازيه حينما يُخْرَج من قبره ، ويظهر ما بكينونته من الجحود والعصيان ..

وما نراه أنَّ الله تعالى يقول ) أَفَلَا يَعۡلَمُ إِذَا بُعۡثِرَ مَا فِى ٱلۡقُبُورِ ( ولم يقل :( مَن في القبور ) ، فورود كلمة ) مَا ( دون كلمة ( مَن ) له دلالته في كتاب الله تعالى .. فالبعثرة ليست مقصورة على نفوس البشر بتفريقها عن بعضها وإخراجها من قبورها ، إنّما تطال أيضاً مكنونات كل نفس وما بداخلها ممَّا كانت تخفيه في حياتها الدنيا ..
.. فورود كلمة ) مَا ( دون كلمة ( مَن ) تصويرٌ مطلق لحقيقة الدلالات المحمولة في السياق السابق واللاحق لهذه الآية الكريمة ، وتصويرٌ مطلق لحقيقة تعلّق المقسَم به بالمقسَم عليه في بداية هذه السورة كما بيّنا، فالناموس الذي يحكم رحلةَ الخطيئة في نفس الإنسان ابتداء بصدر الإنسان وانتهاء بالمجتمع ، يتعلَّق بمكنونات النفس وبتفاعلها مع ما حولها في حياتها  الدنيا  

ولذلك نرى الآية التالية مباشرة تتابع تصوير هذه المسألة : ) أَفَلَا يَعۡلَمُ إِذَا بُعۡثِرَ مَا فِى ٱلۡقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ مَا فِى ٱلصُّدُورِ (١٠) ( وكلمة ) وَحُصِّلَ ( فعل ماض مبني للمجهول على نسق ) بُعۡثِرَ  ( .. وكلمة    ) وَحُصِّلَ ( تعني : وأُبرز ومُيِّز وأُظهِر الحقُّ وذهب ما سواه .. وكلمة ) و ٱلصُّدُورِ َ ( من الجذر ( ص ، د ، ر ) ، وصدرَ الشيء بمعنى ذهب وانصرف ..
)وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدۡيَنَ وَجَدَ عَلَيۡهِ أُمَّةً۬ مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسۡقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمۡرَأَتَيۡنِ تَذُودَانِ‌ۖ قَالَ مَا خَطۡبُكُمَا‌ۖ قَالَتَا لَا نَسۡقِى حَتَّىٰ يُصۡدِرَ ٱلرِّعَآءُ‌ۖ وَأَبُونَا شَيۡخٌ۬ ڪَبِيرٌ۬ ([ القصص : 23 ]  
) يَوۡمَٮِٕذٍ۬ يَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتً۬ا لِّيُرَوۡاْ أَعۡمَـٰلَهُمۡ (  [ الزلزلة : 6 ]  
 من هنا كان الصَّدْر مخزن ما تنصرف به النفس في حركة حياتِها تجاه ما يحيط بها، فهو مخزن مكنونات النفس، بمعنى ما تُخفيه، وبالتالي ما تحتويه من مكنونات .. فالصدر كمخزن لتلك المكنونات التي ينصرف بها الإنسان في تفاعله مع الحياة ينشرح ويضيق ..
) فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُ ۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُ ۥ لِلۡإِسۡلَـٰمِ‌ۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُ ۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُ ۥ ضَيِّقًا حَرَجً۬ا ڪَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَآءِ‌ۚ ڪَذَلِكَ يَجۡعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ (   [الأنعام : 125]
 ومن الممكن أن يخفي الإنسان حقيقة هذا المخزون الذي ينصرف به في تفاعله مع ما يحيط به ، ومن الممكن أن يعلن عنه ..
) يَعۡلَمُ خَآٮِٕنَةَ ٱلۡأَعۡيُنِ وَمَا تُخۡفِى ٱلصُّدُورُ (  [ غافر : 19 ] 
.. والوسواس الخنّاس يوسوس في هذا المخزون النفسي لينصرف به الإنسان وفق مراد الشيطان ..
) مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ (٤) ٱلَّذِى يُوَسۡوِسُ فِى صُدُورِ ٱلنَّاسِ ( [الناس : 4 – 5]
ودلالات هذه الآية الكريمة ) وَحُصِّلَ مَا فِى ٱلصُّدُورِ ( معطوفة على ما قبلها (بُعۡثِرَ مَا فِى ٱلۡقُبُورِ ( ، بمعنى : مع كلِّ ما يفعل الإنسان من جحود ومعصية ، لا يعلم أنَّ الله تعالى يجازيه حينما يُخْرَج من قبره ويظهر ما كان يُخفيه ، وحينما يَبرز ويتميَّز ويظهر مخزونه النفسيّ الذي كان ينصرف به في جحوده وتفاعله في حياته الدنيا ..
 ودلالات الآيتين الكريمتين : ) أَفَلَا يَعۡلَمُ إِذَا بُعۡثِرَ مَا فِى ٱلۡقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ مَا فِى ٱلصُّدُورِ ( تؤكِّد صحّة ما نذهب إليه في تفسيرنا لآيات المُقسَم به والمُقسَم عليه في بداية هذه  السورة ، فالناموس الكوني في حركة نفس الإنسان في الابتعاد عن الفطرة النقيّة الطاهرة ، ابتداء بتجاوز النفس لحدود الفطرة النقيّة وما يترتّب على ذلك من تلوّنها باتجاه السواد )وَٱلۡعَـٰدِيَـٰتِ ضَبۡحً۬ا ( ، ثمّ الانتقال إلى نتيجة ذلك وهي إخفاء هذه النفس لومضات النور التي يمكنها أن تُولَد من رحم هذه الفطرة ) فَٱلۡمُورِيَـٰتِ قَدۡحً۬ا ( ، ثمَّ الانتقال إلى نتيجة ذلك وهي الوصول إلى حال تبديل الحقيقة الجليّة بغيرها ) فَٱلۡمُغِيرَٲتِ صُبۡحً۬ا ( ، ثمَّ إثارة ثابت فكري مجتمع في النفس والذهن ، وتحريكه باتجاه التبديل والتجاوز للحدود الفطريّة )  فَأَثَرۡنَ بِهِ نَقۡعً۬ا ( .. ثمَّ الانتقال إلى وسط جمعٍ لفرض هذا الحال عليه ) فَوَسَطۡنَ بِهِۦ جَمۡعًا ( .. وكلُّ ذلك ( المُقسَم به ) .. يتعلَّق بدلالات المُقسَم عليه ، أي بجحود الإنسان وبكونه شهيداً على ذلك وبحبّه الشديد للخير : ) إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ۬ (٦) وَإِنَّهُ ۥ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَہِيدٌ۬ (٧) وَإِنَّهُ ۥ لِحُبِّ ٱلۡخَيۡرِ لَشَدِيدٌ (٨)( .. كلُّ ذلك ( المُقسَم به والمُقسَم عليه ) ، قضايا نفسيّة تتعلَّق بمخزون النفس وانصرافها به تجاه حركة حياتها فيما يحيط بها ، وهذا ما رأيناه في الآيتين : ) أَفَلَا يَعۡلَمُ إِذَا بُعۡثِرَ مَا فِى ٱلۡقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ مَا فِى ٱلصُّدُورِ (

.. الآية الأخيرة في السورة : ) إِنَّ رَبَّہُم بِہِمۡ يَوۡمَٮِٕذٍ۬ لَّخَبِيرُۢ (١١)( نرى فيها تعليلاً لقوله تعالى : ) إِذَا بُعۡثِرَ مَا فِى ٱلۡقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ مَا فِى ٱلصُّدُورِ  ( ، بمعنى : مع كلِّ ما يفعل الإنسان من جحود وإنكار ومخالفة ــ وهذا ما رأيناه في الآيات الحاملة للمقسم به والمقسم عليه ــ، لا يقف على حقيقة كان عليه أن يعلمها وهي أنَّ الله تعالى يجازيه ، حينما يُخْرَج من قبره ويظهر ما بكينونته من الجحود والعصيان ، وحينما يَبرز ويتميَّز ويظهر مخزونه النفسيّ الذي كان ينصرف به في جحوده وتفاعله في حياته الدنيا .. ثمَّ جاءت الآية الكريمة ) إِنَّ رَبَّہُم بِہِمۡ يَوۡمَٮِٕذٍ۬ لَّخَبِيرُ ( تعليلاً لذلك .  وكلمة ) لَّخَبِيرُ ( من الجذر ( خ ، ب ، ر ) .. وفي كتاب الله تعالى الخُبْر المعرفة والعلم والدراية ..
) كَذَلِكَ وَقَدۡ أَحَطۡنَا بِمَا لَدَيۡهِ خُبۡرً۬ا (   [ الكهف : 91 ]   
والخبَر هو النبأ والعلم والمعرفة ..
) ........ إِنِّىٓ ءَانَسۡتُ نَارً۬ا لَّعَلِّىٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ جَذۡوَةٍ۬ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ (   [القصص : 29 ]
.. وأَخبار الشيء أموره وحوادثه ..
) .......... لَّا تَعۡتَذِرُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَڪُمۡ قَدۡ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنۡ أَخۡبَارِڪُمۡ‌ۚ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُ ........... (   [ التوبة : 94 ]     
 والخبير بالشيء هو العالم به ، والذي يحيط معرفة به وبأحداثه ..
) ......... وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٌ۬ (    [ البقرة : 271 ]  
) ...... وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ (   [ آل عمران : 153 ]
.. وكلمات الآية الكريمة : ) إِنَّ رَبَّہُم بِہِمۡ يَوۡمَٮِٕذٍ۬ لَّخَبِيرُۢ (١١)
 متعلّقة بكلمة : ) لَّخَبِيرُۢ ( .. ونرى أنَّه تمَّ تقديم الكلمتين : ) بِہِمۡ يَوۡمَٮِٕذٍ۬  ( على كلمة : )لَّخَبِيرُۢ    وأنَّه تمَّ تقديم كلمة : ) بِہِمۡ  ( على كلمة : ) يَوۡمَٮِٕذٍ۬ ( .. فالتصوير القرآني الكريم يُلقي الضوء عليهم في ذلك اليوم كأساس بياني ، يجعل من وصف حقيقتهم في ذلك اليوم مركز البيان الدلالي في هذه الآية الكريمة .. فأولوية التصوير القرآني في هذه الآية الكريمة ليس الحديث عن كون ربِّهم جلَّ وعلا خبيراً ، وليس الحديث عن ذلك اليوم ، وإنما الأولويّة لبيان حالهم في ذلك اليوم ، من زاوية كون ربِّهم بهم خبيراً ..

 وما نراه أيضاً هو ورود صيغة الربوبيّة المضافة لهم : ) رَبَّہُم ( دون صيغة الإلوهيّة ، وهذا يتعلَّق بكون المسائل المحمولة في الآيات السابقة لا تخرج عن ساحة  الربوبيّة من تسخير للأسباب بين يدي الإنسان ، وهذا ما يتجلَّى في الآية الكريمة : ) إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ ( من المُقسَم عليه ، حيث ورود صيغة الربوبيّة : ) لِرَبِّهِ ( ، وحيث الجحود في النعم المسخّرة بين يدي الإنسان ) لَكَنُودٌ (.
وفي قوله تعالى : ) إِنَّ رَبَّہُم بِہِمۡ يَوۡمَٮِٕذٍ۬ لَّخَبِيرُۢ ( ، نرى تخصيص كلمة : ) لَّخَبِيرُۢ  ( في ذلك اليوم ، وذلك بورود كلمة : ) يَوۡمَٮِٕذٍ۬ ( في هذه الآية الكريمة ، مع العلم أنَّ الله تعالى خبيرٌ دائماً بكلِّ شيء ، سواء في ذلك اليوم أو في غيره ..  وهذا التخصيص يعود إلى كون مركز البيان الدلالي المحمول في هذه الآية الكريمة ، يتعلّق بماهيَّتهم ، ولذلك نرى كلمة : ) بِہِمۡ  ( تتقدّم الكلمتين : ) يَوۡمَٮِٕذٍ۬ لَّخَبِيرُ .. فكما بيّنا ، أولوية التصوير القرآني في هذه الآية الكريمة ليس الحديث عن صفة الخبير لله تعالى ، إنّما لبيان حالهم في ذلك اليوم ، كون دلالات السورة القرآنيّة بمجملها تتناول مكنونات النفس ورحلتها مع حيثيّات جحودها وابتعادها عن الفطرة النقيّة ... من هنا نرى تأخير كلمة : ) لَّخَبِيرُ (  وتعلّق الكلمات : ) إِنَّ رَبَّہُم بِہِمۡ يَوۡمَٮِٕذٍ۬  بها ، وتخصيصها بكلمة : ) يَوۡمَٮِٕذٍ۬   ( ..
.. ما نراه في هذه السورة الكريمة أنَّنا أمام وحدة متكاملة متناسقة ، من أوَّل آية فيها إلى آخر آية ، وأنَّ الذهاب بتفسير المُقسَم به في بدايتها بأنَّه يتعلَّق بالخيل وحوافرها وهجومها على القوم ، أو بمادَّة جامدة غير عاقلة وغير مختارة لفِعْلها ، هو مخالفة صريحة لصياغة كلمات هذه السورة الكريمة وعباراتها ..