الاثنين، 27 فبراير 2012

التسامح الديني حقيقة أم خيال! بقلم / عدنان الرفـاعـي

الى صاحب كل قلب توقف عن الحب...
الى أصحاب العقول المريضه بموروثاتها الملوَثه بالدم...
الى أصحاب كل ضمير يعيش غيبوبة التاريخ الدموى للبشر.

التسامح الديني
حقيقة أم خيال!

بقلم / عدنان الرفـاعـي


حينما تُدفَعُ منظومةُ الوعيِ الضابطِ لِفِكْرِ الأمّةِ وثقافتِها نحو سُبلِ إلغاء الآخر ، واحتكارِ الخلاص ، واتّهامِ الآخرين بالكفرِ والزندقةِ لمجرّدِ أنّهم آخرون .. حين ذلك تكونُ الأمّةُ قد غاصت في مستنقعِ التطرّف ، وابتعدت كُلَّ الابتعادِ عن حقيقةِ التسامحِ الديني ، التي جاءتْ بها – ولأجلِها – كُلُّ الرسالات السماويّة ..
 ولإدراك حقيقةِ التسامح الديني ، لا بُدَّ من تبيان الجذور الأولى للتطرّف .. تلك الجذور التي تُطفئُ كُلَّ ومضةِ نورٍ يحملُها الفكرُ الدينيًُّ الحقُّ في مجالِ التسامح الديني .. وبالتالي لا بُدَّ مِنْ الوقوفِ عندَ حقيقةِ الفِكْرِ الذي يستمدُّ منه المتطرّفونَ بذورَ تطرُّفِهِم ..
مُشكلةُ إلغاء حقيقةِ التسامح في الفِكر المحسوب على الدين ، تتجلّى في كَوْنِ الكثير من المتديّنين ينطلقون من اعتبار أنفسِهم ناطقين رسميّين باسمِ اللهِ تعالى فوقَ هذه الأرض ، وأنّهم يُجسِّدُون مُرادَه .. وهذا ما حدث مع بعضِ أتباع الرسالتين السماويّتين السابقتين للإسلام ..
] وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [  المائدة : 18
وبالتالي فالغارقُ في مستنقعِ هذا التطرّف الفِكري ، لا يُراجعُ نفسَهُ ولا يستخدمُ عقلَهُ ، مهما بلغ حجمُ جريمتِه ، ومهما أساء للآخرين ، لأنّه يعتقد أنّه يقفُ مع الله تعالى في خندقٍ واحدٍ معادٍ للخندق الذي يقف به أولئك الآخرون
.. وقد تجلّى هذا الغلوُّ في أنفسِ الذين كفروا من بني إسرائيل ، ولذلك يصفُهم اللهُ تعالى بقولِه :
] كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ  [  المائدة : 79
إذاً ... الجذورُ الأولى للتطرّف الدينيّ ، الذي يُلغي مبدأَ التسامح الدينيّ من أساسه ، هي غُلوٌّ يبدأُ بتضخيمِ الذات ، مروراً بتقزيم الآخر ، وصولاً إلى إلغائه وإخراجِه من دائرة الإيمان والخلاص ، وبالتالي اتّهام الآخرين بالكفر لأنّهم ليسوا في دائرة تلك الذات ..
] وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ   البقرة : 111
وحتّى يحيا هذه التطرّفُ ويستمرَّ في الأجيالِ اللاحقة ، لا بُدَّ له من نصوصٍ يَستندُ عليها تتوارثها تلك الأجيال ...
ومن هنا يبدأُ الوضعُ على الرسلِ عليهم السلام ، ويبدأُ التحريفُ والتلفيقُ الذي يُنسَبُ إلى الرسلِ عليهم السلام ، مع أنّهم براءٌ منه...
          وهذا الغلوُّ في إنكارِ الآخرِ واحتكارِ الخلاصِ ، لا ينجو منه الواقفون في خندقٍ واحد ، فبعد أن يُلغوا الآخرين ، يبدؤون بإلغاء بعضِهم بعضاً ، كُلٌّ يتعصّبُ لإطارٍ أضيق ، يُنكرُ – من خلالِه – على الآخرين إطارَهم الذي وضعوا أنفسَهم فيه ..
] وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ  [ البقرة : 113
ففي قولِه تعالى ]  كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ  [، بيانٌ أنّ إلغاء الآخر واتّهامَهُ بأنّه ليس على شيءٌ يُخرِجُ الإنسانَ من ساحة العلم ، وبالتالي يُدخلُه في دياجير الظلام ، وفي ذلك وصفٌ لجميع المتطرّفين دينيّاً في كُلِّ الأديان دون استثناء ..
إذاً .. إلغاءُ مبدأ التسامح في الفكر المحسوب على الدين ، يبدأُ بالتطرّفِ والغُلوِّ ليصلَ إلى إلغاءِ الآخرين عبر ساحةٍ مُعيّنة ، ليمتدّ – بعدَ ذلك – إلى ساحاتٍ أضيقَ داخل تلك الساحة ، وبالتالي شرذَمةُ الأمّةِ إلى مذاهب وطوائفَ وفرقٍ يُلغي كُلٌّ منها الآخر ..
وفي تاريخ المُسلمين وتفاعلِهم معَ الفِكْرِ المحسوب على الإسلام ، نرى الأمرَ ذاتَه ، فنرى صورةً مُطابقةً تماماً لما حدثَ معَ أهل الكتاب .. ففي حين أنّ أهلَ الكتاب زعموا احتكار الخلاص : ] وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى  [، نرى الكثير من المُسلمين يزعمون أيضاً أنّ الجنّةَ – بعد مبعث الرسول محمّد "ص"- حِكرٌ على المُسلمين ، مُعرضين عن الدلالاتِ الواضحةِ وضوح الشمسِ وسط النهار في قولِه تعالى :
]لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً  [ النساء : 123 – 124
وفي حين أنّ أهلَ الكتاب زعموا عدمَ الخلودِ في النار لمن يدخلُ منهم النار :  ]وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً  [  البقرة : 80  ، زعمَ المُسلمونَ الزعمَ نفسَه ، عبر تلفيق الكثير من الروايات – في كثير من الصحاح – ونسبها إلى الرسول ص ، مُعرضين عن دلالاتِ الكثير من آياتِ كتابِ الله تعالى التي تنقضُ ما يذهبون إليه ..
.. وفي حين تشرذمَ أهلُ الكتاب إلى الكثير من الطوائف والمذاهب المتناحرة التي يفتكُ بعضُها ببعض ، نرى الأمرَ ذاتَه بين المذاهب والطوائف الإسلاميّة التي يُخطِّئُ بعضُها بعضاً .. يقولُ تعالى واصفاً هذه السُّنّةُ البشريّة :
]بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ  [الحشر: 14  
إذاً .. إلغاءُ مبدأ التسامح الديني ، هو تطرّفٌ ليس له دينٌ مُحدَّدٌ ، ولا قوميّةٌ مُحدَّدة ، لأنّهُ من صناعة أهواءِ البشر وعصبيّاتِهم ، ولا علاقةَ له بدينِ الله تعالى .. والمشكلةُ الكُبرى أنّ المُتطرِّفَ يعدُّ نفسَهُ مظلوماً ، لأنّ الأوهامَ التي تملأُ نفسَه ويحلمُ بها لم تتحقّقْ على أرض الواقِع ، فأيديولوجيا التطرّف تحجبُهُ عن رؤيةِ حقوقِ الآخرين ونقاطِ الالتقاء معهم ..
والقاسم المشترك في الفِكر المُتطرِّف المُلغي لمبدأ التسامح الديني عند جميع الأمم – دون استثناء – يتجسّدُ في تصوّرِ مؤامرةٍ مُستمرّةٍ مِنْ عدوٍّ يتمُّ تحميلُهُ مسؤوليّةَ الفشل ، ويُستخدَمُ كمانعةِ صواعق ، للحيلولة دون انهيار منظومة الفِكر المُتطرّف من جهةٍ ، ويُستخدمُ كذريعةٍ للهروبِ من الاستحقاق العقلي والواقعي والموضوعي ، وذلك من خلال اتّهام أصحاب العقل والموضوعيّة بالكفر والعمالة ..
ونحن لا نُنكرُ وجودَ المؤامرات التي تُحاكُ ضدَّ هذه الأمّة ، وضدَّ أيّ أُمّة ، فمن البديهيّ أن يتآمر العدوُّ على عدوّه ، ولكن المُشكلة تكمنُ في كوْنِ الفِكر المتطرّف لا يرى الأمورَ والأشياء كنتيجة موضوعيّة للمقدّمات التي تأخذُ بها الأمّة ، ويأخذُ بها أعداؤها ، إنّما يراها مُجرّدَ مُؤامرة ، فلا يرى نهوضَه الحضاريَّ إلاّ بتدمير الآخرين ، ولا يرى أيّ مساحة للمشترك الإنسانيّ في بناء الحضارة حتى مع أبناءِ دينِه من الطوائفِ الأخرى ..
وإلاّ كيف بنا أنْ نُفسّرَ الاقتتال الذي نراه بين الأشقاء في كلِّ مكان ؟ .. وكيف بنا أنْ نُفسّرَ تكفيرَ من يُؤمنُ بالقرآن الكريم ويقومُ بأركان الإسلام مجتمعة ؟ .. وكيف بنا أنْ نُفسّرَ تفجير بيوتِ العبادة ومدارسِ الأطفال وأسواقِ  الباعة ؟ .. كُلُّ ذلك إنّما حصل ويحصل نتيجةَ المتاجرة بالدين ، ونتيجة عدم فصل الدين عن السياسة ، ونتيجةَ الاستخفاف بعقول العوام ، عبرَ دفعهم نحو الهاويّة التي تحرقُهم – في الدنيا والآخرة –  وذلك تحتَ قناعِ الدين والدفاع عنه ، وكأنّ دينَ الله تعالى لا يستقيمُ إلاّ بقتل الآخرين .. فكلٌّ يصنعُ من رواياتِه وبعضِ رجالاتِ التاريخ وبعضِ مشايخه أصناماً مُقدّسةً ، من يقتربُ منها يستحقُّ الموت ، وبالتالي هو ذاتُه يُوضَعُ في ساحة استحقاق الموت من وجهةِ نظر متطرّفٍ آخر في الجانب الآخر ، لأنّه لم يُقدّسْ أصنام التاريخ لذلك الآخر ..
.. ولكي نعلمَ هذه الحقيقةَ ، وكيفَ يُلغى مبدأ التسامح الديني من أساسه ، عند بعضِ المحسوبين على الإسلام ، ما علينا إلاّ أن ننظرَ إلى الأحاديث التالية التي تمَّ تلفيقُها ونسبُها – ظلماً وعدواناً – إلى الرسول ص .. 
البخاري حديث رقم ( 24 ) حسب ترقيم العالميّة :
[[ حَدَّثَنَا ....... عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ]] ..
مسلم حديث رقم ( 31 ) حسب ترقيم العالميّة :
[[ حَدَّثَنَا ....... عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ]] ..
.. مسلم حديث رقم ( 1528 ) حسب ترقيم العالميّة :
[[ حَدَّثَنَا ....... عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ ....... ]]
.. مسلم حديث رقم ( 4971 ) حسب ترقيم العالميّة :
[[ حَدَّثَنَا ....... عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ فَيَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ....... ]]
.. مسلم حديث رقم ( 4970 ) حسب ترقيم العالميّة :
 [[ حَدَّثَنَا ..عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلَّا أَدْخَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ النَّارَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا . ]]
.. ولو قرأ المتطرّفون عند جميع الأديان والمذاهب والطوائف – دون استثناء – قولَ الله تعالى :
]  لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ  [  البقرة : 256
]  وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [  يونس : 99
] وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ  [  الكهف : 29
لو قرؤوا ذلك بتجرّدٍ عن أصنامِهم الفكريّة وآمنوا به ، لعرفوا عُمقَ غرقِهم في أوحال التطرّف ، ولفهموا حقيقةَ مبدأ التسامح الديني الذي يأمرُ اللهُ تعالى به ..
.. ولو أنّهم قرؤوا قولَ الله تعالى :
]وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  [النساء : 94 لعلموا أنّه لا يُمكنُ لإنسانٍ أن يُكفّر إنساناً مُسالماً غيرَ مُعتدٍ ، بل لا يُمكنُه أن يصفَه بعدِمِ الإيمان .. وبالتالي فإنّ قتلَ هذا الإنسان ، يدفعُ القاتلَ إلى ساحة المعنيين بقولِه تعالى :
] وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً  [ النساء : 93
لو أنّهم يؤمنون بهذه الآياتِ الكريمة ، إيماناً صادقاً يخشعون به لقولِ الله تعالى ، ولو أنّهم يسمعون دلالاتِها الواضحةَ ، بعيداً عن التفسيرات التاريخيّة ، لعرفوا الحقّ .. ولو أنّهم استخدموا عقولَهم والفطرةَ النقيّةَ التي فطرَ الله تعالى الناس عليها لعرفوا ذلك الحقّ ..  
.. فالإصغاءُ إلى كتاب الله تعالى دونَ أصنام التاريخ ، ودونَ فرضِ التفسيرات الفاسدة وروايات التاريخ على دلالات آياتِه ، أو استعمالُ العقلِ بعيداً عن أوهام تلك الأصنام .. أيٌّ من هذين السبيلين ، يدفعُ الإنسانَ إلى عِلْمِ الحقيقة ، وبالتالي يُخرجُه من سعيرِ التطرّف الأعمى ، ويدخلُهُ في ساحة التسامح الديني ..
] وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ  [ [ الملك : 10 ] ..

 

إضاءات حول الخطاب الديني 2-2 بقلم /عدنان الرفاعى

إضاءات حول الخطاب
 الديني 2-2 
بقلم /عدنان الرفاعى
 ( 4 ) – النقطةُ الرابعةُ التي نقفُ عندها ، هي تقديمُ التاريخِ ورجالاتِه أصناماً لا يجوزُ نقدُها ، وَجَعْلُ هذه الأصنامِ برزخاً يحجبُ الكثيرَ من دلالاتِ كتابِ اللهِ تعالى عن إدراكِ قارئيه .. فالفِكْرُ الإسلاميِّ – من منظارِ هذا الخطاب المُتخلّف – تمَّ إنجازُهُ من قِبَلِ السابقين ، وما على اللاحقين إلا اجترارُ ما وصلنا عن السابقين ، فالسلفُ – كما يزعمون – لَمْ يتركْ لِلخَلَفِ شيئاً ..
.. هذا الخِطابُ المتخلِّفُ المحسوبُ على الدين ، يُؤدّي إلى الكُفرِ بتدبّرِ القرآنِ الكريم ، ويناقضُ كليّةَ ما يُريدُهُ اللهُ تعالى .. يقول تعالى :
(  سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ  )  ( فصلت : 53 )
.. فآياتُ اللهِ تعالى التي يحملُها القرآنُ الكريمُ في الآفاق ، وفي الأنفس ، تَظْهَرُ لِلناسِ معَ تقدّمِ الزمن .. وبالتالي فلا بُدَّ أن يُدركَ كلُّ جيلٍ من دلالاتِ كتابِ اللهِ تعالى ما لَمْ تستطعْ الأجيالُ السابقةُ إدراكَهُ .. وبالتالي فالخطُّ البيانيُّ لِلفِكرِ الإسلاميِّ الحقِّ مع تقدّمِ الزمن ، في تصاعدٍ نحو الأعلى ، حتى يتبيّنَ لِلبشريةِ أنَّ كتابَ اللهِ تعالى حقٌّ ، يستحيلُ على البشرِ الإتيانُ بمثله ..
.. هذا هُوَ المنظارُ الحقُّ الذي يجبُ أن ينظرَ من خلالِه أصحابُ الخِطابِ الدينيّ الحق .. أمّا الخِطاب الذي يُقدّمُ الفِكرَ الإسلاميَّ مُنجزاً من قِبَلِ السلف ، ولا يجوزُ تجاوزُ فهمِ السلفِ لِكتابِ اللهِ تعالى ، فهو خِطابٌ يجعلُ الخطَّ البيانيَّ للفكر الإسلامي مع تقدم الزمن ، في هبوطٍ نحو الأسفل ، ويُصوِّرُ النصَّ القرآنيَّ نصاً محدودَ الدلالاتِ كالنصوصِ البشريّة ..
.. ولذلك نرى أنَّ أتْباعَ هذا الخِطابِ المُتخلّفِ يَضِيقونَ ذَرْعَاً بكلِّ جديدٍ مُستنبطٍ من كِتابِ الله تعالى ، مهما بَلَغَتْ الحججُ والبراهينُ التي تُثْبِتُ حَمْلَ كِتاب اللهِ تعالى لِهذا الجديد .. وبالتالي تشمئزُّ قلوبُهم حينما يُذْكَرُ كِتابُ الله تعالى وتستنبطُ دلالاتُهُ بشكلٍ مُجرَّدٍ بعيداً عن أصنامِ التاريخ .. يقولُ تعالى :
(  وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ  ) ( الزمر : 45 )
.. فمنهجُهُم في التفاعُلِ مع كُلِّ ما هُو جديد ، يُصَوِّرُهُ اللهُ تعالى بِقَوْلِهِ :
(  بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ  ) ( الزخرف : 22 )
.. وما أكثرَ المسائلَ الفِكريّةَ التي أتتنا من السابقين وثبتتْ معارضتُها لِصريحِ القرآنِ الكريم .. أذكرُ منها على سبيلِ المثال : زَعْمَ مسألةِ الناسِخِ والمنسوخ ، والزعمَ بالخروج من النار ، واحتكارَ الخلاص ، وتأييدَ الرسولِ مُحَمِّدٍ r بمعجزاتٍ كونيّةٍ مُصدّقةٍ للمنهج ، والمبالغةَ في مسألةِ الشفاعة ، وتصويرَ مسائلِ القضاءِ والقدرِ تصويراً جبريّاً ، وتلفيقَ أحكامٍ لِمسألةِ العبيدِ وملكِ اليمين لا يحملُها القرآنُ الكريمُ لا من قريبٍ ولا من بعيد .. هذا بالإضافةِ إلى الإعراضِ عن جانبِ الإعجازِ العدديِّ وغيرِهِ في القرآنِ الكريم  ..
( 5 ) – النقطةُ الخامسةُ التي نقفُ عندها ، هي غيابُ الموضوعيّةِ في الخِطابِ المُتَخلّف ، وذلك حينَ مُواجهةِ المشاكلِ المُتَعَلِقةِ بِقضايا الفِكرِ الإسلاميِّ ، والبحثُ عن شمّاعاتٍ لِتعليقِ الأخطاءِ عليها ، وَتَحْميلُ الآخر مسؤوليةَ الفشلِ بشكلٍ كامل ، وَكُلُّ ذلك مِنْ خِلالِ تقديمِ فرضيةِ المؤامرةِ كواقعٍ سِحريٍّ لا سبيلَ لِلخلاصِ منه ، ومن خلالِ استخدامِ مبدأِ سدِّ الذرائِعِ كوسيلةٍ لِتغطيةِ الحقيقة ..
.. كُلُّ ذلك يُكَوِّنُ غِطاءً يحجبُ البصيرةَ عن رؤيةِ ما تجبُ رؤيتُهُ في سطور التاريخ ، وفي الواقع ..... ومنْ أجلِ عدمِ الاعترافِ بِخطأِ بعضِ رجالاتِ التاريخِ الذين تمَّ تحويلُهُم إلى أصنام ، يُتَّهَمُ التاريخُ بأنَّهُ مُزَوَّرٌ حين الاستشهاد بجزئيّةٍ منه .. وفي الوقت ذاتِه يتمُّ الاستشهادُ بجزئيّةٍ من ذات التاريخ الذي تمّ اتّهامُهُ بالتزويرِ من أجلِِ إثباتِ عصبيّةٍ ما ، مِنْ أجلِ تقديمِ رجلٍ من رجالِ التاريخ كصنمٍ لا يجوزُ الاقترابُ منه ..
.. فغيابُ الموضوعيّة ، وتغييبُ العقلِ المُجَرَّدِ والمنهجِ العقليِّ في البحث ، وإحلالُ العصبياتِ ورواياتِ التاريخِ مكانَ ذلك ، يُؤدِّي إلى اتّباعِ منهجِ البحثِ عن النقيضِ السّلبي لِموضوعِ البحث ، وإلى تقديمِهِ بديلاً وحيداً لإظهار أحقيّةِ الرأيِ الفاسِد ، ويؤدّي بالتالي إلى تعميقِ الخطأِ ، وعدمِ الاعترافِ بالحقيقة ..
.. فعلى سبيلِ المثال ، حينَ الحديثِ عن المرأةِ وحريَّتِها وحقوقِها التي غُيِّبَتْ خِلالَ التاريخ ، يُقَدِّمُ أصحابُ الخِطابِ المُتَخَلِّفِ جانبَ الخلاعةِ الغربيّةِ كبديلٍ وحيدٍ مُقابِلَ إعطاءِ المرأةِ حريّتَها ، وكأنَّه لا يُوجَدُ أمامَنا لِلمرأةِ إلاَّ الخلاعةُ الغربيّةُ ، أو الوأدُ الشرقيُّ ..
.. وهكذا .. تُصبحُ ساحةُ فاعليّةِ مواقفِ الأمّةِ ، خلفَ المنابرِ بدلاً من الواقِع .. فإسقاطُ جزئيّاتٍ تاريخيّةٍ من الماضي على الواقع ، وتقديمُها حلاً سِحريّاً لمشاكل الحاضر ، يُبدِّدُ جُهدَ الأمّةِ ، ويضعُ مُرادَها في الجهةِ المعاكسةِ لإرادتِها .. فساحاتُ تحدّياتِ الماضي ، ومستحقّاتُ معاركِهِ ، ونتائجُها ، وأدواتُ نهوضِ الأمّة .. كُلُّ ذلك يختلفُ – من حيث جزئيّاتِ العملِ وخصوصيّاتِه – ما بين الماضي والحاضر ..
( 6 ) – النقطةُ السادسةُ التي نقفُ عندَها تكمنُ في كَوْنِ الخِطابِ المُتَخلّف يعتمدُ على غوغاءِ العوام في مُهاجمةِ كُلِّ من يُريدُ البحثَ عن الحقيقةِ ، سواءٌ كان ذلك في مجالِ فَهْمِ دلالاتِ كِتابِ اللهِ تعالى خارجَ إطارِ فَهْمِ السابقين ، أم في فَهْمِ التاريخِ بعيداً عن بعضِ التأويلات المُلفّقة ، أم في فَهْمِ الواقع الحاضر ، أم في مجالِ بعضِ الاكتشافاتِ العلميّة ..
.. وفي هذه النقطةِ يتطابقُ سمتُ هذا الخِطابِ معَ سمتِ خِطابِ فِرعونَ لقومِه .. يقولُ تعالى واصفاً ذلك :
( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ ) ( الزخرف : 54 – 56 )
.. فالآخر يُتَّهَمُ بالكُفْرِ والزندقة ، أو بالعمالةِ والخيانة ، لأنَّ له تصوُّرَهُ وفهمَهُ الخاصَّ به ، وكلُّ ذلك لتغييبِ الحقيقةِ عنْ أعينِ العوام ، نتيجةَ فَشَلٍ في مواجهةِ الحقائق ، وَفَشَلٍ في امتلاكِ الحججِ والبراهين ..
.. أمّا الخِطابُ الدينيُّ الحقُّ بما يخصُّ هذه النقطة ، فَنراه – في كتابِ اللهِ تعالى – مُجَرَّداً عن غوغاءِ العوام ، وعن أوهامِ التاريخ ، وعن عصبيّاتِ الذات ، ومبنيّاً من لبِناتِ الحججِ والبراهين .. يقولُ تعالى :
(  قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ  ) ( البقرة : 111 )
.. ويقولُ تعالى :
(  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ  ) ( المائدة : 8 )
.. فمعيارُ الحقِّ في تقييمِ كُلِّ جديدٍ ، هُوَ امتلاكُ الحجّةِ والبرهان ، بعيداً عن العصبيّات والأهواء ..
( 7 ) – النقطةُ السابعةُ التي نقفُ عندها في وصفِ الخِطابِ المُتَخلِّف ، تَكْمُنُ في نَشْرِ ثقافةِ الموتِ ، كَوَسِيلةٍ وحيدةٍ لِلخلاصِ من الفَشَلِ والهزيمة ، وفي تقزيمِ قيمةِ العملِ في الحياة الدنيا ، وفي نشرِ ثقافةِ الفوضى من خلالِ تصويرِ معاركِ الأمّةِ وتحدِّياتِها كَمُشاجَرَةٍ بين قبيلتين ، الإعدادُ لِلنصرِ فيها يحتاج إلى ساعاتٍ أو أيّام ، كما هُو الحالُ في بعضِ معاركِ الماضي من التاريخ ..
.. وبذلك يبدو الإنسانُ على أنَّهُ يعيشُ منتظراً الموت ، وأنَّ عليه أنْ يحلَّ مشاكِلَهُ الدنيويّةَ بالخروجِ من الدنيا .. حتى الجزاء في الآخرةِ يُقدّمُهُ – هذا الخِطاب المتخلّف – حسبَ معاييرَ مبنيّةٍ على الأمنياتِ دونَ العمل ..
.. أمَّا الخِطابُ الدينيُّ الحقُّ ، فيعطي العملَ في الدنيا أهميّةً تتناسبُ مع كونِ الدنيا مُقدِّمَةً للآخرة ، ومع كوْنِ مصيرِ الإنسانِ في الآخرة مُتوقّفاً على عملِه في الدنيا .. يقولُ تعالى :
( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( النمل : 90 )
( وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( يـس : 54 )
( وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( الصافات : 39 )
( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( الجاثـية : 28 )
( إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( الطور : 16 )
.. فما يُريدُهُ اللهُ تعالى من الإنسان هُوَ أنْ يكونَ أهلاً لِخلافتِه في الأرض ، وأنْ يعملَ بنَّاءً فيها لا هدّاماً .. يقولُ تعالى :
(  هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا  ) ( هود : 61 )
.. فالإنسانُ – في حياتِه الدنيا – إضافةً إلى عبادتِهِ للهِ تعالى ، مُطالبٌ بإعدادِ أسبابِ القوّة ، يقولُ تعالى : (  وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ  ) (الأنفال : 60 ) ، ومطالبٌ باستخدامِ مادّةِ الكونِ في تحصينِ نفسِه ، وفي نَشْرِ العدلِ ، وفي نصرةِ الحقّ .. يقولُ تعالى :
(  لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ  )  ( الحديد : 25 )
.. فالعبارةُ القرآنيّةُ : (  وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ  ) ، نراها خلفَ العبارةِ القرآنيّة : (  لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ  ) ، وأمامَ العبارة القرآنيّة : (  وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ  ) .. وفي ذلك بيانٌ إلى أنَّ نَشْرَ العدلِ والحقِّ ، ونصرةَ منهجِ اللهِ تعالى في الأرض ، يحتاجُ إلى استخدامِ الحديدِ ، سواءٌ في البأس الشديد دفاعاً عن الحقّ ، أم في سعادةِ الإنسان ومنافِعِهِ الحياتيّة .. 
.. إنَّ الخِطابَ الدينيَّ الحقَّ مُطالبٌ بالدعوةِ إلى بِناءِ الحضارةِ ، من خلالِ اكتشافِ نواميسِ عالمِ الخلقِ ، والعملِ بها في اتّجاهِ سعادةِ الإنسان وسموِّهِ ، وفي اتّجاه تسخيرِ ما بين يديه لخدمةِ الإنسانيّة وفقَ المعاييرِ التي يُريدُها اللهُ تعالى ..
.. وهكذا .. فالخِطابُ الدينيُّ الحقُّ ، خِطابٌ بنّاءٌ ، يدعو إلى ثقافةِ المحبّةِ والتسامحِ والمودّةِ والعملِ البنّاءِ والتعاونِ بين أبناءِ المجتمع ، ويدعو إلى ثقافةِ الحياةِ وسعادةِ الإنسان ، لا الموت ، ويدعو إلى العملِ الحضاريِّ والإبداعِ الفِكريِّ في شتّى مجالاتِ الحياة ، ويسلكُ طريقَ الحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ في نشرِ دينِ اللهِ تعالى ، ولا يبخسُ الناسَ أشياءَهم ، ولا يحتكرُ الخلاصَ دونَ الآخرين ..