الأربعاء، 15 فبراير 2012

كتابات فى علوم القرآن 4 من 4



المفردات القرآنيـّة لغـة السـماء
                                بقلم / عدنان الرفاعى  4  


( وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ )  ( يوسف : 100 )  ..
ومما يُقابل كلمة عربي التي تعني - كما رأينا - الكمال والتمام والخلو من العيب والنقص ، هو كلمة ( أعجمي ) ، التي تعني عدم الكمال وعدم التمام ، وتعني وجود العيب والنقص .. يقول الله تعالى ..
( وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ   (198)  فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ   (199)  كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ  )  ( الشعراء : 198 -  201 ) ..
من الواضح في هذه الصورة القرآنيّة أنَّ كلمة (  الأعْجَمِينَ  ) لا تعني أبعاداً قوميّة ، ولا تعني غيرَ البشر ، إنَّما تعني صفاتٍ سلبيّةً في نفوس بعض الأعجمين ، تحمل من العيب والنقص والابتعاد عن الحق ما يجعلهم لا يُؤمنون بالقرآن الكريم ، ولا يرون فيه الحقَّ ودلائل الإعجاز التي تُبيّن كماله وتمامه وخلوّه من أيِّ عيب أو نقص ..
ولو أخذنا هذه الكلمة ( الأعجمين ) حسب المعنى الذي ذهبت إليه التفاسير ، لتناقض ذلك مع ما يحمله القرآن الكريم من أدلّة ، ومع الواقع الذي نراه بأمِّ أعيننا ..
- يتناقض هذا المذهب من التفسير مع كون القرآن الكريم أُنزل للبشريّة جمعاء ، وليس لقوم العرب وحدهم .. فبعض الأعجمين ( إن كانت كلمة الأعجمين تحمل معنىً قوميّاً كما تذهب التفاسير ) نُزِّلَ عليهم القرآنُ الكريم ، لأنّهم من جملة الناس الذين نُزِّلَ إليهم القرآنُ الكريم .. وبالتالي  فالآية الكريمة  ( وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ ) لا يُمكن أن تعني بعض ما هو ليس من قوم العرب ، لأنّ المجرمين الذين تصفهم الآيات الكريمة التالية لهذه الآية ، والذين لا يُؤمنون بالقرآن الكريم حتى يروا العذاب الأليم ، موجودون في قوم العرب وفي كلِّ الأقوام ..
- ويتناقض هذا المذهب من التفسير مع الواقع ، فغير العرب الكثير منهم آمن بالقرآن الكريم ، والله تعالى يقول عن بعض الأعجمين ( مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) ..فلا تُوجد أُمّةٌ إلاّ وفيها من آمن بالقرآن الكريم .. ولذلك فإنَّ الجزم بأنَّ العبارة القرآنيّة   ( بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ) تعني بعض القوميّات الأخرى ، يتناقض مع وجود المؤمنين بالقرآن الكريم في كلِّ القوميّات ، ومع كون القرآن الكريم منهجاً لكلِّ القوميّات دون استثناء ..
والآية الكريمة التالية ، بتفسيرها المنسجم مع روح القرآن الكريم كونَهُ كتاباً مُنزلاً للبشريّة جمعاء ، ومع ساحة رسالة محمّد ( ص ) والتي هي للبشريّة جمعاء ، تُؤكّد صحّة ما ذهبنا إليه في تفسيرنا لكلمة أعجمي ..
( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) ( فصلت : 44 ) ..
ذهبت التفاسير - تقليداً - إلى أنّ كلمة  ( أَأَعْجَمِيٌّ ) في هذه الآية الكريمة تعني قرآناً بلغةِ غير قوم العرب ، وإلى أنّ كلمة  ( وَعَرَبِيٌّ  ) تعني رسولاّ عربيّاً ، أو قوماً عرباً .. وهذا المذهب من التفسير يتعارض مع القرآن الكريم في النقاط التالية :
1 - الكلمتان ( أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ) كلمتان قرآنيّتان مُتتاليتان بينهما حرفُ عطف ، وإعادة كلٍّ منهما إلى أمرٍ مختلفٍ عن الأمر الذي تُعاد إليه الكلمةُ الأخرى دون إيِّ دليلٍ ، أمرٌ يتعارضُ مع انسجام روح النصّ القرآني .. فالأَولى أن تُعاد الكلمتان إلى أمرٍ واحدٍ ..
2 - إذا كان المقصودُ - كما ذهبت التفاسير - بالعبارة القرآنيّة ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ) أنّه لو أُنزل القرآن الكريم بلغة قوميّة أُخرى ، لقال العرب - مُحتجِّين - كيف يكون القرآن بلغة مخالفة للغتهم القوميّة وللغة الرسول ( ص ) ، لو كان هذا المذهبُ من التفسير صحيحاً ، لأدّى ذلك - سواء علم من يجزم بهذا التفسير أم لم يعلم - إلى أنَّ لغير العرب مبرِّراتِ الاحتجاج على كونِ لغةِ القرآنِ الكريم تتعارضُ مع لغاتِهم القوميّة ، وعلى كون لغةِ الرسول ( ص ) تتعارض أيضاً مع لغاتِهم القوميّة .. وبالتالي فهذا المذهبُ من التفسير يتعارض تماماً مع حقيقة القرآن الكريم كونَهُ كتاباً للبشريّة جمعاء ، ومع حقيقة بعث محمّد ( ص ) للبشريّة جمعاء ، بعيداً عن القوميّات ولغاتِها ..
3 - نهاية الآية الكريمة ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) ، تُبيّن حقيقة تفاعل البشريّة جمعاء مع القرآن الكريم ، وليست خاصّةً بالعربِ وحدِهم ، فانقسام البشريّة إلى قسم يؤمن به وقسم لا يؤمن به ، مسألة لا يمكن حصرها بقومِ العرب ..
إنَّ الله تعالى يقول لنا من خلال هذه الصورة القرآنيّة ، ولو جعلنا هذا القرآن بماهيّة ليست كاملة وليست تامّة وليست خالية من أيِّ عيب أو نقص ، ولو جعلنا آياته ليست مفصَّلة وليست مبيّنة بتمام كامل من أيِّ عيب أو نقص ، لكان القرآن الكريم حاوياً على العيب والنقص ، ولرَأوا فيه العيبَ والنقص ، ولحسبوا أنَّ فيه من الكمال والتمام حسب ما يناسب أهواءَهم من هذا العيب ، وبالتالي لقالوا كيف يكون ذلك ، أعيب ونقص ، وكمال وتمام ..
وهكذا نرى كيف أنّ الكمال والتمام والخلوَّ من العيب والنقص ، وهذا ما يتّصف به القرآن الكريم ، كتاباً وحُكماً ولساناً ، هو نتيجةٌ لكون مفرداتِه فطريّةً مُوحاةً من الله تعالى بعيداً عن أيّ اختيارٍ بشريٍّ ، ونتيجةٌ لربط هذه المفردات مع بعضها بعضاً في العبارة القرآنيّة ، وفق حكمة مطلقة وعلمٍ مطلقٍ من الله تعالى ..
ولذلك نرى كيف أنَّ دلالات المفردات القرآنيّة في العبارة القرآنيّة ، تحمل من الأدلّة والمعاني أكبرَ بكثير مما تُبيّنه لنا قواميسُ اللغة العربيّة ، ومن أن تُحيط تصوّراتُنا بهذه الأدلّةِ والمعاني ، ونرى أيضاً أنَّ صياغةَ القرآن الكريم فوق قواعد اللغة العربيّة التي تمّ تقعيدُها من قبل البشر ..
ولمّا كانت المفرداتُ القرآنيّة تُسمّي ماهيّة الأشياء تسميةً مطلقة ، فإنَّ ذلك يقتضي أنّ الأسماءَ القرآنيّةَ التي تُسمِّي تلك الأشياء ،  تتقاربُ في بنيتها اللغويّةِ تقارباً يوازي تقارب الأشياء بخواصّها وصفاتها من منظار علم الله تعالى ..
.. ولذلك يدخل الحرف القرآني في معادلة الوصف كواحدة معنى ، وليس مجرّدَ لبنةٍ صوتيّةٍ في بناء الكلمة .. وأكبر دليلٍ على ذلك هو الحروف النورانيّة في بداية بعض السوَر ، التي منها ما يأتي في آيات كعبارات قرآنيّة مستقلّة ... ولا يُمكن لعاقل أن يتصوَّر أنّها مجرّدُ واحداتٍ صوتيّة دون معنى ، والله تعالى يقول ..
( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) ( هود : 1 ) ..
.. فاللبنة الأولى للمعنى في القرآن الكريم هي الحرف القرآني ، وتأتي الكلمة القرآنيّة وصفاً مطلقاً لماهيّة الموصوف ، من خلال اجتماع معاني الحروف المكوِّنة لهذه الكلمة بترتيب مُعيّن .. فالكلمات التي تتكوّن من الحروف ذاتها ، يعود الاختلاف في ما تحمله من معانٍ إلى الاختلاف في ترتيب الحروف المكوّنة لهذه الكلمات ، مع الأخذ بعين الاعتبار كونَ الحرف ينتمي للجذر اللغوي الذي تفرّعت عنه الكلمة ، أو كونَهُ لا ينتمي إلى هذا الجذر .. وكلُّ ذلك ضمن قوانينَ ونظمٍ مطلقةٍ تنتظمُ بِها واحداتُ المعنى ( الحروف ) ، في صياغةٍ مطلقة صاغها الله تعالى من اللبنات الأولى للمعنى وهي (28) حرفاً قرآنيّاً ، بحيث يتمُّ من خلالِها الوصفُ المطلقُ للأمورِ والأشياء ، وصفاً يحمل مفاتيحَ كلّ شيءٍ في هذا الكون ..
والمفردات القرآنيّة الفطريّة ( بما فيها الحروف كواحدات معنى ) صالحة لتسمية كلِّ ما في الكون ، وذلك من منظار حقيقتها وماهيّتها ، لا من منظار ما نراه من ظاهرها .. فالاختلاف الذي نراه  في ظاهر الأمور والأشياء في هذا الكون  من منظارنا الظاهري ، يختلف عن حقيقة هذه الأمور والأشياء من منظار عالم الأمر المجرّد عن المكان والزمان والذي لا تجتمع فيه المتناقضات ..
فالقرآن الكريم الذي نزل تبياناً لكلِّ شيء يقتضي من جملة ما يقتضيه أن يكون تبياناً لجميع الأسماء الحقِّ في هذا الكون ، والتي تسمّي - من منظار الله تعالى - كلَّ شيء في هذا الكون ..
وحتى نُدرك هذه الحقيقةَ نحتاج لمفاتيحِ أسرارِ القرآن الكريم ، للدخولِ إلى ما وراء الظاهرِ الذي نراه في كلماتِهِ وجمله  ، ونحتاج أيضاً إلى مفاتيح إدراك ماهيّة الأشياء في هذا الكون .. عندها سنرى أنّ الحروفَ القرآنيّةَ والمفرداتِ القرآنيّةَ والجملَ القرآنيّةَ ينطوي تحت ما تصفه وتصوّره كلُّ شيءٍ في هذا الكون .. وفي الآخرة عندما يأتي تأويل القرآن الكريم سنرى هذه الحقيقةَ بأمّ أعيننا ..
.. والمعجزةُ العدديّةُ تُثبتُ هذه الحقيقةَ من خلالٍ بُرهانٍ رياضيٍّ لا يعرفُ الكذب والخداع .. فبإعطاءِ كُلِّ حرفٍ قُرآنيٍّ قيمةً عدديّةً ، هي ذاتُها ترتيبُ مجموعِ ورودِهِ في القرآن الكريم ، وبحسابِ الجُملِ القرآنيّةِ ، بناءً على هذه الأبجديّةِ المُستنبطةِ من كتابِ اللهِ تعالى .. نرى أنَّ توازن المعنى والدلالات بين الجملِ القرآنيّة ، وتكامُلَهُ ، ينعكسُ توازناً وتكاملاً في القيمِ العدديّةِ لتلك الجُمَل ..
.. فلمّا كانَ بناءُ المعنى والدلالاتِ متوازناً مع البناءِ الرقميِّ الذي لبنتُهُ الأولى الحرف ، فإنَّ الحرفَ هو اللبنةُ الأولى في بناءِ المعنى والدلالات .. وهذا لا يكونُ إلاّ إذا كانت المُفرداتُ القرآنيّةُ فطريّةً موحاةً من الله تعالى ، وليست وضعيّةً من صنع البشر ..

كتابات فى علوم القرآن 3 من 4




المفردات القرآنيـّة لغـة السـماء
بقلم / عدنان الرفاعى 3

وحكمة الله تعالى اقتضت أن يُنزِّل منهجه المُعجِز للبشريّة جمعاء ، والحاملَ لمنهجِ الهداية للبشريّة جمعاء ، بلغة فطريّة أوحاها لأبي البشريّة جمعاء ( آدم عليه السلام ) ، على رسول أُمّي فطري ، يعلم اللغة الفطريّة الموحاة من الله تعالى ، وينتمي إلى مجتمع أُمّي فطري يعلم هذه اللغة الفطريّة ، حتى يكون هذا المنهجُ وهذه المعجزةُ للبشريّة جمعاء التي تفرّعت لُغاتُها عن لغةِ صياغةِ هذا المنهج ..
.. فآدم عليه السلام تعلّم المفرداتِ الفطريّةَ من اللهِ تعالى في عالمِ الأمر ، وهبطَ بِها إلى الأرض كأوّلِ إنسان مُمتحنٍ على هذه الأرض .. ومحمّدٌ ( ص ) نزل عليه قولُ الله تعالى من العالَمِ ذاتِهِ ( عالم الأمر ) كآخرِ رسولٍ على وجه الأرض .. فالمسألةُ بدأت بآدمَ عليه السلام واكتملتٍ بمحمّدٍ ( ص )  ، لتشملَ البشريّةَ جمعاء ، عبرَ منهجٍ ومعجزةٍ للبشريّةِ جمعاء ..
.. فرسولُ البشريّةِ جمعاء لسانُهُ ولغتُهُ لسانٌ ولغةٌ تجمعُ البشريّةَ جمعاءَ قبل تفرّعِ لغاتِها المختلفةِ عن اللغة الفطريّة الأم التي نزل بها القرآن الكريم .. وبالتالي فإنّ تعلّم لغة القرآن الكريم لإدراك دلالاته ، هو في الحقيقة عودةٌ للغةِ الفطريّةِ الأم ، وعودةٌ إلى التسمياتِ الحق التي علّمها الله تعالى لآدم عليه السلام ..
قد يبدوا هذا الكلام ضرباً من الخيال بالنسبة لبعضهم .. لكنّنا نقولُ لمن يُؤمن بالقرآن الكريم ويرى كلامَنا هذا ضرباً من الخيال ..... هل يُعقل أنَّ الله تعالى يُفرِغ معانيه وأحكامَه وأدلّتَه ( كلامه ) في قوالبَ لغويّةٍ من وضع البشر لا يرون أمامهم أكثر من بضع كيلو مترات ، ثمّ يقول عن تلك القوالبِ اللغويّةِ إنّها قولي الذي أتحدّى الإنس والجن أن يصيغوا مثله ، وإنّها قولي الذي يحوي مفاتيح أسرار الكون ، وإنّها تِبيانٌ لكلِّ شيءٍ في هذا الكون ، وإنّها تحمل عُمقاً من التأويل لا يعلمه إلاّ الله تعالى ؟  .. فهل يُعقلُ أنْ تحملَ أوعيةٌ محدودةٌ بإدراكِ البشرِ ، دلالاتٍ غيرَ متناهيةٍ ومتناسبةً مع علمِ الله تعالى ؟ ..
.. وهذه الصفةُ التي يتَّصفُ بِها القرآنُ الكريمُ ، بأنّ كلماتِه فطريّةٌ موحاةٌ من الله تعالى ومصوغةٌ صياغةً مُطلقة تحمل كلّ أسرار الكون .. هذه الصفة بيّنها الله تعالى في كتابه الكريم ..
( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )  ( يوسف : 2 ) ..
فالكلمتان ( قُرْآناً عَرَبِيّاً ) تعنيان بإطارهما العام ، قرآناً كاملاً شاملاً تامّاً مفصّلاً لا عوج فيه وخالياً من أيِّ عيب أو نقص ، ومعناهما ليس محصوراً بإطار التفسير المعروف - تقليديّاً - بأنّه قرآنٌ بلغةِ قومِ العرب ... هو قرآنٌ بلغة قوم العرب ، ولكنّ هذا المعنى يأتي من جملة المعاني المُرادة ، لأنّ لغةَ قومِ العرب تحمل المفردات القرآنيّة الفطريّة الموحاة من الله تعالى كما رأينا .. ودليلنا في هذا المذهب من التفسير هو الآتي :
1 - قولُه تعالى ( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) في نهاية الآية الكريمة ، هو خطاب للبشريّة جمعاء ، وليس خطاباً خاصّاً بالعرب دون غيرهم ، لأنَّ القرآن الكريم أنزله الله تعالى لجميع البشر وليس للعرب وحدهم ..
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ) ( النساء : 174 ) ..
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )  ( سـبأ : 28 ) ..
وإنَّ الجزمَ بإنّ الكلمتين ( قُرْآناً عَرَبِيّاً ) لا تعنيان إلاّ قرآناً بلغة قوم العرب ، يقتضي أنّ نهاية الآية الكريمة ( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )  خطابٌ موجّهٌ حصراً للعرب .. وهذا يتعارض مع حقيقة القرآن الكريم كونَهُ كتاباً للبشريّة جمعاء ..
2 - ودليلٌ آخر على أنّ كلمة ( عرب ) تعني التمام والكمال والخلو من العيب والنقص ، هو قول الله تعالى : ( إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً )  ( الواقعة : 37 ) ..
فكلمةُ ( عُرُباً ) مشتقّةٌ من الجذر ( ع ر ب ) ، ولا تخرج في معناها عن إطار المعنى الذي يحمله هذا الجذر ، ونرى أنّها لا يمكن أن تعني أنَّ أُولئك اللاتي سينشِئَهنّ اللهُ تعالى في الآخرة لأصحابِ اليمين ينتمين إلى قوميّة مُحدّدة .. فالأَولى بمعيار القرآن الكريم عقلاً ومنطقاً أن يكون معنى كلمة ( عُرُباً ) هو أنّ اللاتي سينشئهنّ الله تعالى في الآخرة ، كاملاتٌ تامّاتٌ خالياتٌ من أيِّ عيب أو نقص ..
3 - ومن متعلّقات القرآن الكريم كونَهُ عربيّاً أنّه غيرُ ذي عوج ..
( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) ( الزمر : 28 ) ..
4 - والقرآن الكريم عربي لأنّه فُصّلت آياته تفصيلاً كاملاً لكلِّ عالمٍ ومتعلّمٍ يريد أن ينهل من علومه ..
( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )  (  فصلت : 3 ) ..
5 - والله تعالى أنزل القرآن الكريم حال كونه حُكماً تامّاً كاملاً لا عيب فيه ولا نقص ..
(  وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً  )  ( الرعد : 37  ) ..
..فالحكم مسألة مُجرّدة تماماً عن اللغة من حيث خصوصيّتها القوميّة ، وبالتالي نرى أنَّ كلمة ( عَرَبِيّاً ) تُبيّن لنا وجهَ الكمال والتمام والخلوِّ من أيِّ عيب أو نقص في الحكم الذي أنزله الله تعالى ..
6 - ومن خصائص إنزال القرآن الكريم أنّه أُنزل بلغةٍ و أسلوبٍ وتِبيان ( لسان ) ، بحيث يتّصف بالكمال والتمام والخلو من أيّ عيب أو نقص .. وليس بلغة  وأسلوب وتبيان كتبيان البشر الذي لا بُدّ وأن يحمل العيب والنقص ، لأنّ علم البشر - مقارنة مع علم الله تعالى - علمٌ ناقصٌ ..
( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) ( النحل : 103 )  ..
( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ  (193)  عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ  (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ  )  ( الشعراء : 195 ) ..
( وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ) ( الأحقاف :  من الآية12  .. ففي الآية الأخيرة نرى أنّ الذين يُنذرُهم القرآن الكريم ( الَّذِينَ ظَلَمُوا ) ، والذين يُبشّرهم القرآن الكريم ( لِلْمُحْسِنِينَ ) ، موجودون في كلِّ الأمم ، وليسوا حصراً على قومٍ مُحدّدين ( قوم العرب ) .. ولذلك فالكلمتان  ( لِسَاناً عَرَبِيّاً ) تعنيان لغةً وأسلوباً وتِبياتاً كاملاّ تامّاً خالياً من أيِّ عيب أو نقص ..
فاللسان هو آليّة اللغة وأُسلوبُ المخاطبة ووسيلة التبيان ..
( وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ) ( مريم : 50 ) ..
وحكمة الله تعالى تقتضي أن يُرسل كُلَّ رسولٍ بلغة قومه وبأسلوبهم وبطريقة تبيانهم ، حتى يُبيّن لهم المنهجُ الذي يحمله ..
( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) ( إبراهيم  :  4 )  ..
.. ولذلك فجميع الرسالات السابقة نزلت ( صياغة ) بلغات البشر الوضعيّة ، لأنها تحمل مناهج لأقوامٍ مُحدّدين في أزمنة مُحدّدة ، وبالتالي لم تكن قولَ الله تعالى ، إنّما كانت فقط كلامَ الله تعالى .. بينما نرى أنَّ منهج البشريّة جمعاء ( القرآن الكريم ) نزل قولاً مُنَزَّلاً من عند الله تعالى ، بلغةٍ فطريّة نطق بها أبو البشريّة جمعاء ( آدم عليه السلام ) ، في العالمين ( عالم الأمر وعالم الخلق ) ..
فمنهج البشريّة جمعاء لا بُدّ أن يكون بلسانٍ فطريٍّ يجمع البشريّة جمعاء ، وبلغة فطريّة هي اللغة الأولى التي عرفتها البشريّة .. وهذا لم يتوفّر إلاّ باللغة الفطريّة التي حافظ عليها الأميّون ( لغة ) منذُ آدمَ عليه السلام إلى مبعثِ مُحمّد ( ص ) ..
ومن مشتقّات الجذر ( ع ر ب ) كلمةُ الأعراب والتي تصوِّر لنا البشر الذين يتظاهرون بالكمال والتمام ولا يعترفون بعيوبهم ، فهمزة التعدّي تُبيّن لنا  - إضافة لما يبيّنه لنا القرآن الكريم من صفات الأعراب -  أنّهم يتعدّون على صفة الكمال والتمام والخلو من العيب والنقص ، هذه الصفة التي لا يتّصفون بها ..
ولمّا كان البشر في الحياة الدنيا لا يُمكن أن يصلوا إلى مرتبة الكمال والتمام والخلو من أيِّ عيب أو نقص ، فإنّنا نرى أنّ الكلمات ( عربيٌّ )  ، ( عربيٍّ ) ،  ( عربيّاً )  ،  ( عُرُباً ) ، وهي باقي مشتقات الجذر ( ع ر ب ) في القرآن الكريم ، تأتي في القرآن الكريم لتصوِّر لنا صفاتِ كتابِ الله تعالى ، واللاتي سيُنشئهنّ الله تعالى في الآخرة لأصحاب اليمين ، ولا تأتي هذه الكلمات أبداً لتصوِّر لنا البشر في الحياة الدنيا .. بينما تأتي كلمة الأعراب التي تُصوِّر لنا التعدّي على ما يحمله الجذر ( ع ، ر ، ب ) من معانٍ ودلالات ، صفةً للذين يتظاهرون بالكمال والخلو من العيوب والنواقص ..
والجزم بتفسير كلمة الأعراب في معظمِ كُتبِ التفسير ،  بأنّها لا تعني إلاّ البدو ( سكان البادية ) ، يتعارض تماماً مع روح القرآن الكريم ، الذي يصف البشر ويُقيّمهم حسب انتماءاتهم العقيديّة ، لا حسب انتماءاتهم الجغرافيّة والإقليميّة ..
.. فلو كانت كلمة الأعراب لا تعني إلاّ البدو ( سكان البادية ) ، لاستُبدلت - في كتاب الله تعالى - بكلمة البدو ، فكلمة البدو كلمة قرآنيّة ، وفي القرآن الكريم لا تُوجَد كلمة مُرادفة لكلمة أُخرى بالمعنى الذي يتصوّره بعض البشر ..