الثلاثاء، 31 يوليو 2012

لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ بقلم/ عدنان الرفاعي:


لماذا تخلف المسلمون
 وتقدم غيرهم؟
عدنان الرفاعي:


الفِكرُ هو تفعيلُ طاقةِ الذاتِ لتعقُّلِ الظواهرِ التى يتفاعلُ معها الإنسانُ بثقافتِهِ، وبأدواتِ حياتِهِ المختلفةِ.. ففِكرُ الأُمّةِ هو آليّةُ تدبُّرِها وتفاعُلِها مع المعارفِ.. ومنظارُها إلى آفاقِ الحياةِ بشتّى أشكالِها.. ومن ثَمَّ هو المنهجُ الناظِمُ لِطُرقِ التعقّلِ والإدراكِ فى استنباطِ المعرفةِ.. وناظِمُها فى تفاعُلِها مع هذه المعارف.

إنّ الفِكرَ هو خُلاصةُ الثقافةِ والتجرِبةِ الحياتيّةِ للإنسان، والقُوّةُ الموجِّهةُ لتفاعلِ أبناء الأمّة مع المعارف ولخلقِ الآليّاتِ المعرفيّةِ للنهوضِ الحضارىّ بوجهَيهِ الروحىّ والمادّىّ.

والفِكرُ ليس نموذجًا مُحدَّدًا يتفاعلُ معه الإنسانُ -فى كلِّ زمانٍ ومكانٍ- كثابتٍ يأخذُهُ بطبيعةٍ ثابتة.. إنّه تفعيلٌ مُستَمرٌّ لتعقّلِ المادّةِ الثقافيّةِ التى بين يدَى الإنسانِ وفى أُفُقِ رؤاه.. ولتعقّلِ ماهيّةِ الأدواتِ الحياتيّةِ والحضاريّةِ التى بين يديه.. كلُّ ذلك من مناظيرَ تتطوّرُ تطوُّرًا مُوازيًا للتطوّرِ الفكرىّ الذى تُنتجُهُ الأُمّة.

لذلك نرى أنّ كَلِمَةَ الفِكرِ (وكذلك كلمةَ العقلِ) لم تَرِدْ فى كتابِ اللهِ تعالى بالصيغةِ الاسميّةِ ولو مرّة واحدة، وأنّ ما يَرِدُ هو الصِّيَغُ الفِعليّةُ.. فبمقدارِ ما يَتِمُّ تفعيلُ الذاتِ وتعقُّلُها فى إنتاجِ الأُسُسِ المعرفيّةِ البنّاءةِ، يتمُّ إنتاجُ الفِكر.

والمفكِّرُ هو من يُبدِعُ آفاقًا جديدةً، تنتظِمُ وَفْقَاً لثقافةُ الأُمّةِ، لتنتقلَ إلى نُقطةٍ مُستقبليّةٍ على محورِ الزمن.. أى هو من يَفتَحُ آفاقًا جديدةً لِنقلِ فِكرِ الأمّةِ وثقافتِها إلى الأمام.. فالمفكِّرُ يُنتجُ الثقافةَ المستقبليّةَ التى تتقدّمُ الأُمّةُ إليها.



من هنا, علينا أن نُميّزَ بين من يُنتِجُ الفِكرَ فَيُبدِعُ مناهجَ جديدةً فى التفكيرِ، تنقُلُ من يسيرُ بها إلى السُّموِّ الفِكرىّ والثقافىّ، وبين من يستهلِكُ هذا الفِكرَ، فيجترُّهُ بِشكل مُستمرٍّ ليبقى فى النقطةِ الفِكريّةِ ذاتِها على محورِ الإبداعِ الفكرىّ.. أى علينا أن نميّزَ بين الفِكرِ كمنهجٍ إبداعىّ لآليّاتِ التطوُّرِ، والتقليدِ الذى لا يتجاوزُ التفاعلَ مع مرحلةٍ فِكريّة مُحدّدةٍ مُنتَجَةٍ فى مرحلةٍ زمنيّةٍ محدّدة. فمعيارُ الإنتاجِ الفِكرىّ هو الإبداعُ المُبرهَنُ، والتجديدُ الهادِفُ، للسموِّ بثقافةِ الأُمّةِ وفِكرِها.. وحينما يتوقّفُ الإبداعُ والتجديدُ فى الفِكرِ، فهذا يعنى أنّ الأُمّةَ لا تُنتِجُ الفِكرَ، ومن ثَمَّ لا تُفكِّر.
       لذلك نرى أنّ الإنتاجَ الفِكرىّ يكون فى مُعظَمِ حالاتِهِ على خِلافٍ مع ثقافةِ العامّةِ وفِكرِهِم، وأنّهُ يدفعُهُم -مع الزمن- إلى الاتّجاهِ بثقافتِهِم وفِكرِهِم إليه، من خلالِ حوارهِم وتفاعُلِهِم معه.

هذا هو القانونُ التاريخى الذى يَنْظمُ الحركةَ الثقافيّةَ والفِكريّةَ فى التاريخِ البشرىّ.. ولكن.. حينما يكونُ فِكرُ العامّةِ، وثقافتُهُم، وما اعتادوه تقليدًا عن آبائهم، ناظِمًا للإنتاجِ الفِكرىّ عند الأُمّةِ، فهذا يعنى موتَ الإنتاجِ الفِكرىّ عند هذه الأُمّة، واجترارَ الماضى، ومن ثَمَّ خروجَها من التاريخِ كأُمّةٍ فاعِلةٍ فيه، ومُحرِّكةٍ لقوانينِهِ.

إنّ ثقافةَ العامّةِ تدورُ دائمًا فى فَلَكِ التقليدِ والخوفِ من التجديدِ الفِكرىّ، ومن ثَمَّ فإنّ الإنتاجَ الفِكرىّ يقومُ على أكتافِ الخاصَّةِ الذين يحملون مسؤوليّةَ التجديدِ الفِكرىّ للأُمّةِ، من خلالِ جُرأتِهِم للحقِّ، وإصرارِهِم وتضحيتِهِم فى سبيلِهِ.

وهكذا.. فثقافةُ الأُمّةِ تعنى رصيدَهَا المعرفىّ،  وإنتاجُها الفِكرىّ يعنى درجةَ التعقّلِ والإبداعِ والتجديدِ فى هذا الرصيدِ المعرفىّ... فقد تُوجَدُ ثقافةٌ دونَ أن يُوجَدَ إنتاجٌ فِكرى... ولكنْ من المستحيلِ إنتاجُ الفِكرِ دونَ وُجودِ قاعدةٍ معرفيّةٍ يُبنَى عليها هذا الإنتاجُ الفكرى.

وما بين الإنتاجِ الفِكرىّ والنهوضِ الحضارىّ تلازمٌ تامٌّ، فدونَ الإنتاجِ الفكرىّ لا تُنتَجُ الحضارةُ ولا تتطوَّر.. إنّ الثقافةَ تجعلُنا قادرينَ على التفاعلِ  مع الحضارةِ القائمةِ، ولكنّها -دونَ الإنتاجِ الفكرىّ- لا تؤهِّلُنا لإنتاجِ الحضارةِ والنهوض بها إلى درجةٍ أعلى على سُلّمِ التقدّمِ الحضارى.

فالأُمّةُ التى لا تُنتِجُ الفِكرَ لا تتطوّرُ حضاريًّا، ومن ثَمَّ تتأخَّرُ -بالنسبةِ إلى غيرِها من الأُمم المنتجةِ للحضارة- على سُلّم التقدّم الحضارى، يبدو زمنُها كأنّهُ يسير باتّجاهِ الماضى.

واستمرارُ النهوضِ فى البناءِ الحضارىّ باتّجاهِ الأمام، ولمصلحةِ البُعدِ الإنسانىّ، يَتطلّبُ من الإنتاجِ الفِكرىّ أن يحوى بماهيّتِهِ نُهوضًا فى القِيَمِ الإنسانيّةِ البنّاءةِ، موازيًا للنهوضِ المادّى فى الحضارةِ المدنيّةِ المُنتجَةِ، وإلاّ فسيطغى الجانبُ المادّىّ فى النهوضِ الحضارىّ على جانبِهِ الروحىّ، وستتحوّلُ الحضارةُ المُنتَجَةُ إلى عِبءٍ على الإنسانيّةِ، بدلاً من كونِها خادمةً لها.

فالنهوضُ المادّىّ يتطلّبُ نهوضًا روحيًّا موازيًا، وإلاّ فالحضارةُ المُنتَجَةُ ستكونُ مَدَنيّةً تتناسبُ عكسيًّا مع مصلحةِ الإنسانيّةِ.. وفى قِصّةِ فِرعونَ أكبرُ دليلٍ على ذلك، حيث النهوضُ المدنىّ كان فى أوجِهِ.. فهندسةُ العُمران، والتحنيطُ فى مجالِ الطبِّ، وغيرُ ذلك من العُلوم، بلغَ ذُروتَهُ، فى الوقت الذى وصلتْ فيه القِيمُ الإنسانيّةُ إلى الحضيض.

إنّ الفِكرَ أساسُ تطوّرِ الأمَمِ وتخلُّفِها، فإلى درجةِ اقترابِهِ من الحقِّ ومصداقيّتِهِ تُرجَعُ جميعُ أسبابِ التطوّرِ والنصرِ، وإلى درجةِ ابتعادِهِ عن الحقِّ تُرجعُ جميعُ أسبابِ التخلُّفِ والهزيمةِ.. فخلفَ كُلِّ حالةٍ للأمّةِ مقدّماتٌ فِكريّةٌ أدّتْ إلى هذه الحالةِ.

وعلى هذا الأساسِ فإنّ الدعوةَ إلى وقف الإنتاجِ الفِكرىّ، والزعمَ بأنّ الفِكرَ المُنتجَ فى مرحلةٍ تاريخيّةٍ مُحدّدةٍ يَصْلُحُ للتطوّرِ الحضارىّ فى كلِّ زمانٍ ومكان، هى دعوةٌ لوقفِ التطوّرِ الحضارىّ روحيًّا ومادّيًّا، لأنّ الفِكرَ المولودَ فى مرحلةٍ تاريخيّةٍ مُحدّدةٍ لا يَصْلُحُ إلاّ لإنشاءِ حضارةٍ محدّدةٍ، لا تخرُجُ عن الإطارِ التاريخىّ الذى وُلِدَ فيه هذا الفِكر.
 
وحتى الكثيرونَ من مُنَظِّرى الفِكرِ الإسلامىّ سقطوا فى غياهب هذا الدعوةِ،  زاعمين أنّ فِكرَ السَّلَفِ الصالح المصبوغ بلون الخصوصيّة الحضارية التى عاشوها فى عصرهم صالحٌ لإنتاج الحضاراتِ المتجدِّدةِ حتى قيامِ الساعةِ، مُعْرِضين عن حقيقةِ حملِ القرآنِ الكريمِ (أساس الإسلام) لينابيعِ الإنتاجِ الفِكرىّ الذى تُنشَأُ عليه الحضاراتُ حتى قيامِ الساعةِ، غيرَ مُدركين حقيقةَ الفصلِ بين الأحكامِ الثابتةِ التى تحمِلُ تِبيانَ الشعائر، والأحكامِ المتجدّدةِ مع الزمنِ التى يحملُها النصُّ القرآنىّ ذاتُهُ لكلِّ جيلٍ بما يُناسِبُ حضارتَهُ، مُتناسينَ قولَ اللهِ تعالى الذى يُبيّنُ أنّ إدراكَ دلالاتِ القرآنِ الكريمِ فى تَصَاعُدٍ مُستمرٍّ حتى قيامِ الساعةِ، وليستْ ثابتةً ولا تخرجُ عن إدراكِ الأجيالِ الأولى كما يتصوّرون.

"سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الْآفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ" (فُصِّلَت: 53).

فمعظمُ هؤلاءِ المنظِّرين للفِكرِ الإسلامىّ، جعلوا من التفسيرِ التاريخىّ للنصِّ القرآنىّ، قرآنًا بديلاً عن النصِّ القرآنىّ ذاتِهِ، فهذا نصٌّ منسوخٌ ، وذاك نصٌّ تحُيطُ بدلالاتِهِ رِواياتُ أسبابِ النزول، وذاك نصٌّ لا تخرُجُ دلالاتُهُ عن حديثٍ منسوبٍ إلى الرسولِ.. والنتيجةِ أنه تمّ التنظيرُ والدعوةُ إلى تصوّراتٍ تاريخيّة، تحت ظلالِ الدعوةِ إلى كتابِ اللهِ تعالى.. أى تمَّ تحويلُ بعضِ جوانبِ التاريخِ إلى منهج.

إنّ معظمَ الأيديولوجيّاتِ الفِكريّةِ التى وقفتْ وراء مُعظمِ الدَّعَواتِ الثقافيّةِ والفِكريّةِ والسياسيّةِ فى تاريخنا العربىّ، كانت إمّا مُستوردةً من الخارِجِ، وإمّا مَبنيّةً على فِكرِ مرحلةٍ تاريخيّةٍ محدّدةٍ دون الأخذِ بعين الاعتبارِ حقيقةَ التجديدِ الفِكرىّ التى يجبُ أن تَنْبُعَ من ماهيّةِ الفِكرِ ذاتِه.

لذلك فالمشكِلةُ دائمًا تكمُنُ فى اللاحقين الذين يحسَبونَ التقليدَ فِكرًا، والاتّباعَ الأعمى نهوضًا، والعصبيّةَ العمياءَ ثقافةً بنّاءة.. وكلُّ ذلك تمثّلاً لوصف الله تعالى.

"إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ» (الصافات: 69-70).

"بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ» (الزخرف: 22).

المشكلةُ أنّنا فى مُعظمِ محطّاتِنا التاريخيّةِ كُنّا نُقدِّمُ نُهوضَ الأُمّةِ على أساسٍ تاريخىّ، لا على أساسٍ فِكرىّ، متناسينَ حقيقةَ النهوضِ الحضارىّ الذى لا يكونُ من خلال التاريخ، إنّما من خلالِ الفِكر. ولو نظرنا إلى أسبابِ تخلُّفِنا الحضارىّ بالنسبةِ إلى الأُممِ الأخرى، لرأيناها تنقسِمُ إلى أسبابٍ خارجيّةٍ وأسباب داخليّة.

1.  الأسبابُ الخارجيّةُ، تتمحورُ حولُ نقطتينِ أساسيّتين:
      I.            المؤامراتُ المستمرّةُ على هذهِ الأمّةِ.. ولو عُدنا إلى حقيقةِ الأمرِ وبحثنا بحثًا موضوعيًّا فى أسبابِ نجاحِ هذه المؤامراتِ فى تحقيقِ أهدافِها، لرأينا أن نجاحِها مبنيًّا من لَبِنَاتِ ضعفِنا، وتقصيرِنا فى مُواجهةِ هذه المؤامراتِ، وخلافاتِنا المذهبيّةِ والطائفيّةِ والإقليميّة.
   II.             فلو ارتقينا إلى المُستوى المطلوبِ فى مواجهةِ هذه المؤامرات، لما تحقّقتْ أهدافُها كما يُريدُ أعداءُ هذه الأمّةِ.. فالسبيلُ إلى مُواجهةِ هذه المؤامراتِ هو الوعى والعَمَلُ وعدمُ الانخراطِ فى الخِلافاتِ الجانبيّةِ.. وكلُّ ذلك لا يكونُ إلاّ من خلالِ فِكرٍ سَليمٍ يصهرُ أبناءَ هذه الأُمّةِ فى بُوْتَقَةٍ واحِدةٍ لإنتاجِ لَبِنَاتِ بِناءِ المواجهةِ الذى تتحطّمُ عليه كلُّ المؤامرات.


فلو كان فِكرُنا سَليمًا لقدَّمنا ثقافةَ الاتّفاقِ فى ما بينَنا على ثقافةِ الاختلاف، ولما تقاتلنا، ولما كفّر بعضُنا بعضًا، ولما احتكَرَ كلٌّ منّا الخَلاصَ لنفسِه، ولتمثَّلنا قولَ اللهِ تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (المائدة: 2) 
"وَلا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلا السَّىَّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ» (فُصِّلَت: 34).
 "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (الممتحنة: 8).

وهكذا نرى أنّ السَّبَبَ الأوّلَ لنجاحِ المؤامراتِ الخارجيّةِ على هذهِ الأُمّةِ هو بعضُ سِلبيّاتِ فِكرِنا.

السببُ الخارجىّ الآخرُ هو التقدّمُ الحضارىّ للأُممِ الأُخرى، فى الوقتِ الذى نُراوحُ فيه مكانَنا، ومن ثَمَّ تَسْبِقُنا الأُممُ فلا نستطيعُ مواكبتَها ولا نُدافِعُ عن أنفُسِنا إلاّ بأدَوَاتٍ حضاريّةٍ مُتخلّفةٍ عن الأدواتِ التى تملِكُها تلكَ الأُمم.. ولو عُدنا إلى جُذورِ تخلُّفِنا الحضارى هذه، لرأيناها فِكريّةً، فعَدَمُ اتّباعِنا سُبُلَ العِلمِ والنهوضِ الحضارىّ فى الوقتِ الذى اتّبعَ فيه غيرُنا هذه السبلَ، مسؤوليّتُنا، ومسؤوليّةُ فِكرِنا، فما زلنا نعتقدُ أنّ سيفَ عنترةَ يَصْلُحُ لمواجهةِ الطائرةِ وكُلِّ التكنولوجيا الحديثةِ التى ينتجُها الآخرون.

2 -  الأسبابُ الداخليّةُ، يمكنُنا حصرُها فى نُقطتين:
v  تقصيرُنا فى العملِ وانحلالُ سلوكِنا فى كثيرِ من المفاهيمِ (مقارنةً مع كثيرٍ من الأممِ)، وهذا كلُّهُ سببُهُ الهشاشةُ الفِكريّةُ التى تُنتِجُ -مع الزمن- سُلُوكًا هَشًّا، ينهَارُ أمامَ أىّ عاصِفةٍ مهما كانتْ ضعيفةً.. فالمصلَحَةُ الفردِيّةُ عند الكثيرينَ مُقدَّمَةٌ على مصلحةِ الأمّةِ، والتنظيرُ أكثرُ بكثيرٍ من العملِ، كأنّنا نتمثّلُ قولَ اللهِ تعالى:
 "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ» (الصف: 2-3).

v  أسبابٌ فِكريّةٌ محضَةٌ، وذلك باعتناقِ بعضِ الأفكارِ التى ما أنزلَ اللهُ تعالى بها من سلطانٍ، والتى تُشتِّتُ طاقاتِ الأمّةِ، وتُفرِّقُ أبناءَها إلى مذاهبَ وطوائفَ، كلٌّ منها يضَعُ الآخرينَ فى خَنْدَقِ العدَاءِ الفِكرىّ، كأنّنا نتمثّلُ قولَ الله تعالى: «فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» (المؤمنون: 53).

إنّ فِكرَ الماضى هو مقدِّمةُ الوضعِ الراهِن، فالحضارةُ، والصِّناعةُ، والتطوُّرُ بشتّى أشكالِهِ، والقِيَمُ الروحيّةُ، يسبِقُها فِكرٌ يدفعُ ثقافةَ الأمّةِ وهمّةَ أبنائِها باتّجاهِ وضعِها الراهِن، فحالُ الأمّةِ نتيجةُ فِكرِ الماضى، وفِكرُ الأمّةِ هو مقدِّمةُ مُستقبلِها الحضارىّ.

من هنا نرى أنّه لا يمكنُ أن يتغيّرَ حالُ الأُمّةِ إلاّ بتطوُّرِ فِكرِها إلى درجةٍ يسمو بها أبناءُ الأمّةِ إلى مُلكِ إرادةِ التغييرِ الصادقةِ للنهوضِ والعملِ البنّاء.. فالتغييرُ الفعّالُ يبدأُ بالنفسِ، وذلك تمثّلاً لقولِ الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (الرعد: 11).

وفى وُرودِ كلمةِ «بِأَنْفُسِهِمْ» فى هذه الآية القرآنيّةِ بدلاً من "ما فى أنفسِهِم" دليلٌ على أنّ التغييرَ المطلوبَ الذى يُغيرُ من حالِ الأُمّةِ هو فى ماهيّةِ الأنفسِ «بِأَنْفُسِهِمْ»، وليس فى بعضِ ما تحويه هذه الأنفسُ "فى أنفسِهِم."

ففى هذه الصياغةِ القرآنيّةِ نستشفُّ حقيقةً مفادُها: أنّ الفِكرَ يُغيرُ فى ماهيّةِ النفسِ، ولا يقتصرُ تغييرُهُ على ما تحويه النفسُ من ثقافةٍ وتصوّرات، فما بين استمراريّةِ الفِكرِ ذاتِه زمنًا طويلاً وبين ماهيّةِ النفسِ تُوجَدُ علاقةُ تأثيرٍ مُتَبَادَلةٌ، تجعلُ من فِكرِ الأمّةِ -مع الزمن- مؤثِّرًا هامًّا فى تحديدِ لونِ نُفوسِ أبنائِها.

هذا اللونُ الناتِجُ عن فِكرٍ مَوروثٍ لزمنٍ طويلٍ، والذى يَصْبُغُ النفسَ بلونِ هذا الفِكرِ، يُعطى الأُمّةَ هُويَّةً مصبوغَةً بذاتِ اللونِ، فحتى المولودونَ فى الأمّةِ يحملونَ إمكانيّةًً أكبرَ لحملِ هذا اللونِ، وتأتى التربيةُ لِتَصْبُغَ أنفسَهُم به.

هذه الحقيقةُ أدركَها نوح عليه السلام، نتيجةَ تَجْرِبَتِهِ لأكثرَ من تِسعة قُرون معَ أجيالٍ صُبِغَتْ أنفُسُها باللونِ ذاتِهِ من الكُفرِ والإعراضِ عن منهجِ اللهِ تعالى، حتى أصبحَ المولودُ فيها قريبًا من هذا اللونِ، نتيجةَ فِكرِ آبائِهِ لقرون طويلة، ويتعمَّقُ هذا اللونُ فى نفسِهِ نتيجةَ التربيةِ فى المجتمعِ الذى تتالتْ عليه تلك الأجيالُ.

"وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا» (نوح: 26-27).

كلامُنا هذا لا يعنى ناموسًا يُلغى الفِطرةَ التى يحمِلُها المولودُ، ولا يعنى قانونًا عامًّا لا استثناءَ فيه، فكُلُّ مولودٍ يحمِلُ من الروح (الصلة والقربى من الله تعالى) ما يجعلُهُ على الفِطرةِ الطاهرةِ النقيّة.
"الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ" (السجدة: 7-9).

وإبراهيمُ عليه السلام، وُلِدَ من أبٍ كافِرٍ، ونوحٌ عليه السلام أنجبَ وَلدًا كافِرًا.. فما نعنيهِ هو أنّ المجتمعَ بإطارِهِ العامِّ تَنْصَبِغُ نفوسُ أبنائِهِ بلونِ الفِكرِ الذى يتِمُّ تداولُهُ فيه زمنًا طويلاً، لدرجةِ حملِ مُعظَمِ المولودينَ فى هذا المجتمع إمكانيّةً أكبرَ للتلوُّن بهذا اللون، وتأتى التربيةُ فى ما بعدُ لتعمِّقَ هذا اللونَ فى نفوسِ معظمِ هؤلاء المولودينَ فى هذا المجتمع. ويمكنُنا أن نختزلَ أهمَّ معاييرِ سَلامةِ الفِكرِ، وتحديدِ دَرَجةِ كونّهِ بنّاءً ودافِعًا للأُمّةِ نحو الأمام، بالنِّقاطِ التالية:
  
·       الفِكرُ البنّاءُ يدفعُ بأبناءِ الأمّةِ نحو ثقافةِ الاتّفاقِ، ويُبعِدُهم عن ثقافةِ الاختلاف، وعن الزعمِ بامتلاكِ الحقيقةِ الكامِلَةِ دونَ الآخرين.
·       الفِكرُ البنّاءُ يحملُ بماهيّتِهِ إمكانيّاتِ الإبداعِ الفِكرى، والنُّهوضِ الثقافىّ والحضارىّ، مُبعِدًَا الأمّةَ عن التقوقُعِ فى دهاليزِ التقليدِ واجترارِ الماضى.
·       الفِكرُ البنّاءُ يدفَعُ كلَّ فردٍ من أبناءِ الأمّةِ نحو السُّموِّ فى علاقاتِهِ الإنسانيّةِ مع الآخرين، فينظُرُ إلى الآخرينَ من المِنظار ذاتِهِ الذى ينظُرُ فيه إلى نفسِهِ.. ولا يحتكرُ الخلاصَ لنفسِهِ ومذهبِهِ، ولا يبخَسُ الآخرينَ فِكرَهُم.
·       الفِكرُ البنّاءُ يخْلُقُ فى نُفوسِ أبناءِ الأمّةِ توازُنًا مُستمرًّا بين التطوُّرِ المدنىّ من جهةٍ، وبين السُّموِّ فى القِيَمِ والمبادئ والأخلاقِ من جهةٍ أُخرى.
الفِكرُ البَنّاءُ يجعلُ من تاريخِ الأُمّةِ منجَمًا لِصِناعَةِ آليّاتِ تَقويمِ رؤاها الفِكريّةِ البَنّاءةِ نحو المستقبلِ، لا منجمًا لصناعةِ الأقنعةِ المذهبيّةِ والطائفيّةِ التى لا تزيدُ الأمّةَ إلاّ تشرذمًا.
·       الفِكرُ البنّاءُ يجعلُ أفرادِ الأمّةِ قادرينَ على مُلْكِ إرادةِ التغييرِ فى مصيرِهِم الاجتماعىّ والثقافىّ والسياسىّ.. فإرادتُهُم لا يُصادرُها أحدٌ، وتسمو لتكونَ عصا موسى، عليه السلام، التى يضربونَ بها ليصنَعُوا المعجزات، لا عصا فِرعونَ التى يُضرَبونَ بها ليرَوا فِرعونَ فوقَ كُلِّ المعجزات

وهكذا.. فالأُمّةُ التى تُعرِضُ عن إنتاجِ الفِكرِ وصُنعِ الحضارةِ، تُبعِدُ نفسَها عن المشاركةِ فى رَسْمِ حَرَكَةِ التاريخِ، وتقرِّرُ -سواءٌ علمتْ بذلكَ أمْ لمْ تعلمْ- مشاركةَ أبنائِها للحيواناتِ فى الخُروجِ من ساحةِ هذا التاريخ.