الثلاثاء، 21 فبراير 2012

إضاءات حول الخطاب الديني 1-2 بقلم / عدنان الرفاعي

إضاءات حول الخطاب
 الديني1 - 2
بقلم / عدنان الرفاعي

مُصطلحُ الخِطابِ الدِّينيِّ ، عامٌّ ، يُحَمَّلُ مفاهيمَ كثيرة ، وذلك حسبَ المنظارِ الفِكريِّ الذي يُنْظَرُ من خِلالِهِ إلى الدين .. وبصورةٍ أدق .. حسبَ مفهومِنا للدين ..
.. فَكُلٌّ يُعايرُ الخِطابَ الدينيَّ في مِعيارِ ما يعتبرُهُ حقّاً ، ويُصَنِّفُهُ حسبَ اعتقادِهِ لِحدودِ ساحةِ المُقَدَّس ، وَيُقَيِّمُهُ حسبَ إدراكِهِ لأحكامِ المُقَدَّس ..
.. فالخِطابُ الدِّينيُّ ذاتُه يُرى بأشكالٍ مُختلفة ، ومتناقضة ، وذلك حسبَ المفاهيمِ المُختلفةِ والأفكارِ المتباينة .. وهذا يدفعُنا إلى التمييزِ بين خطابٍ دينيٍّ يستمدُّ فِكرَهُ وثقافتَهُ من كِتابِ اللهِ تعالى ، كونَ كتابِ اللهِ تعالى حامِلاً للمنهج .. يقولُ تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) ، وبين أيِّ خِطابٍ محسوبٍ على الدين ، يستمدُّ فِكرَهُ وثقافتَهُ مِمّا يُحسَبُ ويُصَنَّفُ جهلاً داخلَ حدودِ الدين ، وَيُقَدَّم على أنَّهُ خِطابٌ ديني ..
( 1 ) – النقطةُ الأولى التي نقفُ عندها تكمنُ في كَوْنِ الخِطابِ الدينيِّ الحقِّ يدعو إلى ثقافةِ المحبّةِ والبرِّ والإحسانِ بين جميعِ أبناءِ المُجتمع ، مهما اختلفت انتماءاتُهم الدينيّةُ والمذهبيّةُ والطائفيّة .. يقولُ تعالى :
لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ  ) ( الممتحنة : 8 – 9 )
فاللهُ تعالى يدعو إلى التعاملِ مع الآخر بالقسطِ والإحسان ، ما لم يُقاتلْنا ويخرجنْا من ديارِنا ، وبالتالي فوحدةُ أبناءِ المجتمع داخلَ إطارِ التفاعلِ الإنسانيِّ النبيل ، مَطلَبٌ قُرآنيٌّ ، مهما تباينتْ الانتماءاتُ الدينيّةُ والمذهبيّةُ والطائفيّةُ بين أبناءِ هذا المجتمع ..
هذا هو الخِطابُ الدينيُّ الحقُّ المُستمدُّ من كِتابِ اللهِ تعالى ، فيما يخصُّ هذه النقطة .. بينما نرى بعضَ أوجُهِ الخِطابِ المحسوبِ على الدين ، تُقَدِّمُ نصوصاً مُلفقّةً على لسانِ الرسولِ r ، تدعو إلى ثقافةِ الكُرْهِ والاقتتالِ بين أبناءِ المُجتمع الواحد .. من ذلك ، الزَعْمُ بِصحّةِ الحديثُ التالي وبِنسبِهِ إلى الرسول
صحيح مسلم رقم : ( 4030 ) ، حسب ترقيم العالميّة :
[[ حَدَّثَنَا ....... عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ ....... ]] ..
كم هُوَ الفارِقُ بين دلالاتِ هذه الروايةِ المُلَفَّقةِ على لِسانِ الرسولِ الكريم، وبين دلالاتِ الآيتين الكريمتين اللتين تدعوان إلى نشرِ ثقافةِ المحبّة والبرّ والإحسان بين أبناءِ المُجتمع ؟ !!! ..
.. من هنا نستطيعُ القول : إنَّ تَبَنِّي دلالاتِ هاتين الآيتين في هذه النقطة التي نتحدّثُ عنها ، ناتجٌ عن خِطابٍ دينيٍّ حق ، وإنَّ تَبَنِّي دلالاتِ هذه الرواية المُلَفَّقةِ على لسان الرسول (ص)، والدفاعَ عنها ، وتقديمَها سُنَّةً من سنن الرسول (ص)، ومحاولةَ إيهامِ الناسِ بصحّتِها من خلالِ خلقِ تبريراتٍ لا يحملُها نصُّ هذه الرواية لا من قريبٍ ولا من بعيد .. كُلُّ ذلك ناتجٌ عن الغرقِ في حيثيّاتِ خِطابٍ يُحسَبُ على الدين ، والدينُ منه براء ..
( 2 ) – النقطةُ الثانيةُ التي نقفُ عندها تكمنُ في كَوْنِ الخِطابِ الدينيِّ الحقِّ ، يدعو إلى عدمِ احتكارِ الخلاص ، وإلى عدمِ تزكيةِ النفسِ على حسابِ الآخرين .. يقولُ تعالى :
( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى  )( النجم : 32) .. ويقولُ تعالى : (  أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً ) ( النساء : 49 – 50 )
.. والخِطابُ الدينيُّ الحقُّ يدعو إلى عدمِ احتكارِ الخلاص ، وإلى عدمِ اتّهام الآخرين بأنّهم ليسوا على شيء .. يقولُ تعالى :
( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ  ) ( البقرة : 113 )
.. فقولُهُ تعالى : (  كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ  ) ، يُبيّنُ لنا أنَّ اتّهامَ الآخرين بأنّهم ليسوا على شيء ، هُوَ جهلٌ ومخالفةٌ لأحكامِ اللهِ تعالى ..
.. ويبيّنُ اللهُ تعالى في كتابِه الكريم أنَّ احتكارَ الخلاصِ الذي يذهبُ إليه المسلمون وأهلُ الكتاب ، ليس أكثرَ من أمنيات .. يقولُ تعالى :
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً  ) ( النساء : 123 – 124 )
.. وكلُّ النصوص القرآنيّة التي تحملُ دلالاتٍ لهذه المسألةِ ، لا تتعارضُ مع دلالات هذا النصِّ القرآنيّ .. فعلى سبيل المثال ، قوله تعالى : (  وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ  ) ( آل عمران : 85 ) ، لا يتعارضُ مع عدمِ احتكارِ الخلاص الذي يحملُهُ القرآن الكريم ، فالذي لا يُقبلُ منه دينٌ إلاّ الإسلام ، هو المسلم الذي علمَ حقيقةَ الإسلام ، وَمَنْ شهدَ أنَّ الرسولَ حق وجاءَهُ البينات ، وفي الآيةِ التاليةِ للآيةِ الكريمة التي بين أيدينا أكبرُ بُرهانٍ على ذلك ..
 (  وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )  ( آل عمران : 85 – 86 )
إذاً .. الخطابُ الدينيُّ الحقُّ لا يتّهمُ الآخرين بأنَّهم ليسوا على حق ، ولا يُكفّرُهم لأنّهم آخرون .. بينما نرى أنَّ الكثيرين مِمَّن يَحْسِبون أنفسَهُم أوصياءَ على دينِ اللهِ تعالى يُكفّرون كُلَّ ما هو آخر .. حتى المذاهب الإسلامية والطوائف الإسلاميّة المخالفة لهم يُكفّرونَها ، ويزعمون أنّ أتباعها في النار مهما عملوا .. والطامّةُ الكُبرى أنَّهم يحتجون ببعض الروايات التي لُفّقت على الرسول r ..... من هذه الروايات .. ما ورد في مسند أحمد ، حديث رقم ( 11763 ) حسب ترقيم العالميّة :
[[  حَدَّثَنَا ....... عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ افْتَرَقَتْ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَأَنْتُمْ تَفْتَرِقُونَ عَلَى مِثْلِهَا كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً  ]] ..
( 3 ) – النقطةُ الثالثةُ التي نقفُ عندها تكمنُ في كوْنِ الخِطابِ الدينيِّ الحقِّ ، يدعو إلى نشر دينِ اللهِ تعالى ، من خِلالِ الحِكْمَةِ والموعظةِ الحسنة ، لا من خِلالِ الإكراهِ بالسيف  .. يقولُ تعالى :
( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ  ) ( النحل : 125 )
.. فاللهُ تعالى لا يُريدُ إكراهَ أحدٍ حتى على اعتناقِ دينِهِ الحقّ ، ففلسفةُ الثوابِ والعقاب في القرآن الكريم مبنيّةٌ على حريّةِ الاختيار ، وليس على الإكراه .. يقولُ تعالى :
لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ  ) ( البقرة : 256 )
.. ويقول تعالى : (  وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ  )  ( يونس : 99 )
.. ويقولُ تعالى : (  وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً  ) ( الكهف : 29 )
وبعدَ كُلِّ هذا البيان الإلهيِّ الواضحِ وضوح الشمس وسطَ النهار ، يطلعُ علينا  الكثيرون من الخطباء والمفكّرين ليصوّروا لنا الدعوةَ إلى الله تعالى من خلالِ قَتْلِ الآخرين وسبيِ أموالِهِم وأعراضِهِم ، مُحتجّين بالكثيرِ من الرواياتِ التي لُفِّقَتْ على لِسانِ الرسولِ r ..... من هذه الروايات – على سبيل المثال – ما ورد في صحيح البخاري ، حديث رقم ( 379 ) حسب ترقيم العالميّة :
[[  حَدَّثَنَا ....... عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ .......  ]] ..
.. وما يجبُ أنْ نَعْلَمَهُ أنَّ هذا الخِطابَ المحسوبَ على الدين ، والذي يَضَعُ كُلَّ ما هو آخر في خندقِ العداء ، ويريدُ محاسبتَهُ وهدرَ دمِهِ ومالِهِ كَوْنَه آخر ، لا يختلفُ – من حيث الجوهر – عن خِطاب الكافرين لِرُسلِ اللهِ تعالى .. يقولُ تعالى في وصفِهِ لِهذه الحقيقة : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ  ) ( إبراهيم : 13 )
وسنكمل بإذن الله هذا الطرح فى بقيه المقال.