الخميس، 19 يوليو 2012

ولــكــنّ أكــثـرَكــم لـلــــحقّ كــارهـــون 2/2 عدنان الرفـاعي

ولــكــنّ أكــثـرَكــم لـلــــحقّ كــارهـــون
2/2

عدنان الرفـاعي

كاتب ومــفكِّـر إســلامي
 
 
تتكلّمون عن الناسخ والمنسوخ في مسألة تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، مع العلم أنّه لا يُوجدُ نصٌّ قرآنيٌّ يشير إلى أمر الله تعالى لرسوله ص  بالتوجّه نحو القبلة الأولى ، فرسول الله r توجّه هو والمؤمنون نحو بيت المقدس ( 17 ) شهراً قبل الأمر الإلهي بالتوجّه نحو البيت الحرام ، دون نزول نصٍّ قرآنيٍّ خاصٍّ بالتوجّه نحو القبلة الأولى .. والصورة القرآنيّة التالية تؤكّد هذه الحقيقة  ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ )  [ البقرة : 143 ] ..
فالله تعالى لم يقل لرسوله ص  ( وما جعلنا لك القبلة التي كنت عليها ) ، ولم يقل ( وما جعلنا القبلة التي أمرناك بها ) .. لقد توجّه الرسول ص إلى بيت المقدس في البداية ، ولكن ليس من خلال نصٍّ قرآنيٍّ ، والنصّ القرآنيُّ   ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه )  [ البقرة : 144 ] ، يؤكّد ذلك ، فقوله تعالى ( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ) يؤكّد أنّ الرسول  r لم يكن راضياً عن توجّهه في القبلة الأولى ، ولو كان التوجّه إلى القبلة الأولى بأمرٍ من الله تعالى لرضي عنه  r ، فالرسول ص لا يمكنه ألاّ يرضى عن أمر الله تعالى ..
.. بعد ذلك عن أيِّ ناسخٍ ومنسوخٍ يتحدّثون ؟!! .. أين هو النصُّ القرآنيُّ المنسوخ في هذه المسألة ؟!! .. ولا أريد الإطالة في الحديث عن أوهام الناسخ والمنسوخ ، فقد بيّنت في النظريّة الثالثة ( الحقّ المطلق ) هذه المسألة من بدايتها إلى نهايتها ، عبر المرور على أهم الآيات الكريمة التي يزعمون نسخها ، وتمّ تأكيد ذلك في النظريّة الخامسة ( إحدى الكُبَر ) عبر معيارٍ رقميٍّ لا يعرف الكذب والخداع ..
الكثيرون يقولون في الآية الكريمة التالية :
 ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) ( الأعراف : 143 ) ، بأنّ قوله تعالى ( قَالَ لَنْ تَرَانِي  ) هو دليل وقوع الرؤية ، حتى في الحياة الدنيا ، ضاربين بعرض الحائط الحدّ الأدنى من المنطق ، ومن قواعد اللغة .. كلّ ذلك لمخالفة مذاهب فكريّة أخرى ..
ويبرّرون قولهم هذا بأنّ الله تعالى ربط الرؤية بأمرٍ ممكن الوقوع ، وهو استقرار الجبل مكانه ، مع العلم أنّ الله تعالى لم يقل ( لن تراني حتى يستقرَّ الجبل مكانه ) .. وحتى لو فرضنا جدلاً أنّ الله تعالى قال ذلك ، فاستشهادهم غير سليم ، لأنّ الجبل لم يستقر مكانه (  فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً  ) .. وقوله تعالى ( وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي  ) ، هو لتبيين سبب عدم الرؤية ، لا لربط الرؤية باستقرار الجبل أو بعدم استقراره ، والاستدراك الذي تبيّنه كلمة ( وَلَكِنِ  ) في هذه الصورة القرآنيّة يؤكّد ذلك ..
ويبرّرون قولهم هذا أيضاً بأنّه ليس من المعقول أن يطلب موسى عليه السلام أمراً غير ممكن ، ويتناسون أنّ نوحاً عليه السلام قد طلب أمراً غير ممكن ، وحذّره الله تعالى من ذلك ، وذلك حين طلب من الله تعالى إنقاذ ابنه الكافر من الغرق   ( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) [ هود : 46 ] ..
ويتناسون نهاية الآية الكريمة التي يزعمون أنّها دليلٌ على وقوع الرؤية في الدنيا ، (  وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) ، فقول موسى عليه السلام  ( سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) يؤكّد أنّه طلب ما هو غير ممكن ..
.. ثمّ من قال إنّ موسى عليه السلام لم يكن عالماً أنّ رؤية الله تعالى في الحياة الدنيا مستحيلة ، عبر الآليّة العينيّة التي تحكم بصره كبشر في هذه الدنيا ؟!! .. أليس قوله (  رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ  ) يعني اجعلني ولو بأيِّ آليّة أنظر إليك ، وبالتالي لم يكن جاهلاً أنّ الآليّة العينيّة التي تحكمه غير مؤهّلة لرؤية الله تعالى ..
 إنّ المشكلة تتجلّى في أبشع صورها حينما يزعمون أنّ قوله تعالى ( قَالَ لَنْ تَرَانِي  ) دليلٌ على الرؤية .. فالآية الكريمة التي تبيّن أنّ رؤية الله تعالى – في الدنيا – غير ممكنة ، يستخدمونها كدليلٍ على إمكانيّة الرؤية ووقوعها في الحياة الدنيا !!! .. ضاربين بعرض الحائط أيضاً دلالات الآية الكريمة التالية( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير) ( الأنعام : 103 ) ..
نحن لا نتكلّم عن عدم إمكانيّة الرؤية في الآخرة كما ذهبت المعتزلة ، ولا نريد أن ندخل في أعماق هذه المسألة ، إنّما نقول : لا تستخفّوا بعقولنا ، ولا تقفزوا فوق دلالات القرآن الكريم الواضحة وضوح الشمس ، لإثبات العصبيّات الفكريّة التي هدفها الفكريّ الأوّل والأخير الدعوة للمذهب لا لله تعالى ، ولا لمنهجه الذي أنزله للبشريّة جمعاء ، لا لهذا المذهب أو ذاك ..
ولا نريد الإطالة في هذه المسألة ، فنحن نبيّن شواهد على بعض المذاهب التفسيريّة التي تقتل الفكرَ ، عبر فرض بعض القراءات التاريخيّة كمنهجٍ تفسيريٍّ يريدونه معياراً حتى لكتاب الله تعالى ..
والطامّة الكبرى تكمن في تكفير من لا ينصاع بفكره وعقله لهذه العصبيّات الفكريّة الغارقة في مستنقع الفعل التاريخي وردّ الفعل ، فلأنّ الطرف الآخر ذهب باتّجاهٍ فكريٍّ محدّدٍ ، لا بدّ من الذهاب بالاتّجاه المعاكس ، حتى لو كان ذلك بالقفز فوق بعض دلالات كتاب الله تعالى الواضحة وضوح الشمس ..
أيها التائهون – فكريّاً – في أنفاق التاريخ ، والذين تريدون تقديم بعض القراءات التاريخيّة كنصٍّ مقدّسٍ تُعايَر عليه حتى دلالات كتاب الله تعالى ، ولا يقبلون أيَّ آليّة للحوار البنّاء ، لأنَّ مبدأ الحوار والتدبّر يتعارض مع حقيقة منهجكم في تقديم التاريخ كبديلٍ عن منهج الله تعالى ..
هذا القانون التاريخي لم يتغيّر منذ العصور الأولى حتى الآن .. فهل اقتتال المسلمين ابتداءً من معركة الجمل وصفّين والحرّة و ....... حتى اقتتال الأخوة في الآن في أنحاءِ العالَم الإسلامي ، كان نتيجة اختلافٍ على مفهوم الشهادة ، أو على عدد الصلوات اليوميّة ، أو لاختلافٍ في فريضة الزكاة ، أو الحجّ ، أو الصيام ؟!! ..
ما داموا جميعاً متّفقين على كلّ ذلك ، ومجمعين على القرآن الكريم ، وعلى الرسالة التي أنزلت على محمّد r ، وما داموا جميعاً يقرؤون قول الله تعالى  (  وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) ( النساء : 93 ) ، ويقرؤون قوله تعالى  ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ) ( البقرة : 256 ) ، فلماذا قُطعت مئاتُ الآلاف من رؤوس المسلمين تحت اسم حماية الإسلام والذود عنه ؟!! ..
نحن لا نقول ذلك من أجل نبش فتن التاريخ كما يزعم التائهون ، إنّما نقول ذلك لأنّ هذا القانون التاريخي الذي صبغ الكثير من عصورنا عبر التاريخ ، ما زال فاعلاً وبأبشع صوره ، ولأنّ السقفَ الفكريَّ لهذه الأمّة بات محكوماً لعتبة العصبيّات التي نتجت عن تلك الفتن ..
ونحن  بقولنا هذا  لا ننكر – كما يفهم الجاهلون – فضل  الأوائل الذين جعلوا أحكام هذا الدين وشعائره وسنّةَ الرسول r واقعاً متحقّقاً عبر التاريخ ، والذين كانوا السبب الأوّل في وصول منهج الله تعالى إلينا .. إنّما ننكر مصادرة دلالات كتاب الله تعالى التي يحملها لكلّ جيل ، تحت أيِّ ادّعاءٍ كان ، وننكر القول بجفافَ دلالات كتاب الله تعالى وتعليبها داخل حجرات التاريخ ، لأنّ الله تعالى يقول : ( قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) ( الكهف : 109 ) ..
من هنا نرى كيف يذهب بعضهم إلى قتل فكر الأمّة عن طريق فرض فكرهم المتقوقع في سجن عصبيّتهم التاريخيّة التي تلبس ثوب المذهبيّة .. فالعيب ليس في التمذهب الفكريّ بمقدار ما هو في فرض المذهب الفكري على الآخرين ، وفي تقديمه كقراءة أخيرة لمنهج الله تعالى ..
وهذا لا يعني التسليم لأيِّ فكرٍ جديد يقفز فوق الموروث ، ولا يعني إنكار الموروث الفكري ، ولا يعني قبول الموروث الفكري على ما هو عليه لأنّه موروثٌ فكريّ ، إنّما يعني عدم قبول الفكر دون تقديم الحجّة والبرهان من كتاب الله تعالى ، كتطبيقٍ لقوله تعالى  (  قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )  ( البقرة : 111 ) ، ويعني المعايرة المستمرّة لأيِّ فكرٍ على منهج الله تعالى ، حتى يستمرّ التطوّر الفكريّ لهذه الأمّة مع الزمن للاقتراب أكثر من مراد الله تعالى في كتابه الكريم ، كما يريد الله تعالى ..  ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( فصلت : 53 ) ..
.. لا بدّ أن يُعيد كلُّ مذهبٍ فكريٍّ النظر في تقييمه للمذاهب الفكريّة الأخرى ، وأن يسعى إلى تطوير فكر الأمّة للاقتراب من مراد الله تعالى في منهجه ، حتى نكون أمّةً حيّةً تنتجُ الفكر ولا تخطفه وتغرقه في مستنقعات عصبيّات مذاهبها ، وحتى تسري الحياة في جسد هذه الأمّة ، وحتى لا نكونَ السببَ والمعاول التي تهدم بنيانها ، وحتى لا نكون من الذين يعنيهم قول الله تعالى :
( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) ( الأنعام : 159 )
( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) ( المؤمنون : 53 ) ..

                                    انتهى