الأربعاء، 15 فبراير 2012

كتابات فى علوم القرآن 4 من 4



المفردات القرآنيـّة لغـة السـماء
                                بقلم / عدنان الرفاعى  4  


( وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ )  ( يوسف : 100 )  ..
ومما يُقابل كلمة عربي التي تعني - كما رأينا - الكمال والتمام والخلو من العيب والنقص ، هو كلمة ( أعجمي ) ، التي تعني عدم الكمال وعدم التمام ، وتعني وجود العيب والنقص .. يقول الله تعالى ..
( وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ   (198)  فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ   (199)  كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ  )  ( الشعراء : 198 -  201 ) ..
من الواضح في هذه الصورة القرآنيّة أنَّ كلمة (  الأعْجَمِينَ  ) لا تعني أبعاداً قوميّة ، ولا تعني غيرَ البشر ، إنَّما تعني صفاتٍ سلبيّةً في نفوس بعض الأعجمين ، تحمل من العيب والنقص والابتعاد عن الحق ما يجعلهم لا يُؤمنون بالقرآن الكريم ، ولا يرون فيه الحقَّ ودلائل الإعجاز التي تُبيّن كماله وتمامه وخلوّه من أيِّ عيب أو نقص ..
ولو أخذنا هذه الكلمة ( الأعجمين ) حسب المعنى الذي ذهبت إليه التفاسير ، لتناقض ذلك مع ما يحمله القرآن الكريم من أدلّة ، ومع الواقع الذي نراه بأمِّ أعيننا ..
- يتناقض هذا المذهب من التفسير مع كون القرآن الكريم أُنزل للبشريّة جمعاء ، وليس لقوم العرب وحدهم .. فبعض الأعجمين ( إن كانت كلمة الأعجمين تحمل معنىً قوميّاً كما تذهب التفاسير ) نُزِّلَ عليهم القرآنُ الكريم ، لأنّهم من جملة الناس الذين نُزِّلَ إليهم القرآنُ الكريم .. وبالتالي  فالآية الكريمة  ( وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ ) لا يُمكن أن تعني بعض ما هو ليس من قوم العرب ، لأنّ المجرمين الذين تصفهم الآيات الكريمة التالية لهذه الآية ، والذين لا يُؤمنون بالقرآن الكريم حتى يروا العذاب الأليم ، موجودون في قوم العرب وفي كلِّ الأقوام ..
- ويتناقض هذا المذهب من التفسير مع الواقع ، فغير العرب الكثير منهم آمن بالقرآن الكريم ، والله تعالى يقول عن بعض الأعجمين ( مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) ..فلا تُوجد أُمّةٌ إلاّ وفيها من آمن بالقرآن الكريم .. ولذلك فإنَّ الجزم بأنَّ العبارة القرآنيّة   ( بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ) تعني بعض القوميّات الأخرى ، يتناقض مع وجود المؤمنين بالقرآن الكريم في كلِّ القوميّات ، ومع كون القرآن الكريم منهجاً لكلِّ القوميّات دون استثناء ..
والآية الكريمة التالية ، بتفسيرها المنسجم مع روح القرآن الكريم كونَهُ كتاباً مُنزلاً للبشريّة جمعاء ، ومع ساحة رسالة محمّد ( ص ) والتي هي للبشريّة جمعاء ، تُؤكّد صحّة ما ذهبنا إليه في تفسيرنا لكلمة أعجمي ..
( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) ( فصلت : 44 ) ..
ذهبت التفاسير - تقليداً - إلى أنّ كلمة  ( أَأَعْجَمِيٌّ ) في هذه الآية الكريمة تعني قرآناً بلغةِ غير قوم العرب ، وإلى أنّ كلمة  ( وَعَرَبِيٌّ  ) تعني رسولاّ عربيّاً ، أو قوماً عرباً .. وهذا المذهب من التفسير يتعارض مع القرآن الكريم في النقاط التالية :
1 - الكلمتان ( أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ) كلمتان قرآنيّتان مُتتاليتان بينهما حرفُ عطف ، وإعادة كلٍّ منهما إلى أمرٍ مختلفٍ عن الأمر الذي تُعاد إليه الكلمةُ الأخرى دون إيِّ دليلٍ ، أمرٌ يتعارضُ مع انسجام روح النصّ القرآني .. فالأَولى أن تُعاد الكلمتان إلى أمرٍ واحدٍ ..
2 - إذا كان المقصودُ - كما ذهبت التفاسير - بالعبارة القرآنيّة ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ) أنّه لو أُنزل القرآن الكريم بلغة قوميّة أُخرى ، لقال العرب - مُحتجِّين - كيف يكون القرآن بلغة مخالفة للغتهم القوميّة وللغة الرسول ( ص ) ، لو كان هذا المذهبُ من التفسير صحيحاً ، لأدّى ذلك - سواء علم من يجزم بهذا التفسير أم لم يعلم - إلى أنَّ لغير العرب مبرِّراتِ الاحتجاج على كونِ لغةِ القرآنِ الكريم تتعارضُ مع لغاتِهم القوميّة ، وعلى كون لغةِ الرسول ( ص ) تتعارض أيضاً مع لغاتِهم القوميّة .. وبالتالي فهذا المذهبُ من التفسير يتعارض تماماً مع حقيقة القرآن الكريم كونَهُ كتاباً للبشريّة جمعاء ، ومع حقيقة بعث محمّد ( ص ) للبشريّة جمعاء ، بعيداً عن القوميّات ولغاتِها ..
3 - نهاية الآية الكريمة ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) ، تُبيّن حقيقة تفاعل البشريّة جمعاء مع القرآن الكريم ، وليست خاصّةً بالعربِ وحدِهم ، فانقسام البشريّة إلى قسم يؤمن به وقسم لا يؤمن به ، مسألة لا يمكن حصرها بقومِ العرب ..
إنَّ الله تعالى يقول لنا من خلال هذه الصورة القرآنيّة ، ولو جعلنا هذا القرآن بماهيّة ليست كاملة وليست تامّة وليست خالية من أيِّ عيب أو نقص ، ولو جعلنا آياته ليست مفصَّلة وليست مبيّنة بتمام كامل من أيِّ عيب أو نقص ، لكان القرآن الكريم حاوياً على العيب والنقص ، ولرَأوا فيه العيبَ والنقص ، ولحسبوا أنَّ فيه من الكمال والتمام حسب ما يناسب أهواءَهم من هذا العيب ، وبالتالي لقالوا كيف يكون ذلك ، أعيب ونقص ، وكمال وتمام ..
وهكذا نرى كيف أنّ الكمال والتمام والخلوَّ من العيب والنقص ، وهذا ما يتّصف به القرآن الكريم ، كتاباً وحُكماً ولساناً ، هو نتيجةٌ لكون مفرداتِه فطريّةً مُوحاةً من الله تعالى بعيداً عن أيّ اختيارٍ بشريٍّ ، ونتيجةٌ لربط هذه المفردات مع بعضها بعضاً في العبارة القرآنيّة ، وفق حكمة مطلقة وعلمٍ مطلقٍ من الله تعالى ..
ولذلك نرى كيف أنَّ دلالات المفردات القرآنيّة في العبارة القرآنيّة ، تحمل من الأدلّة والمعاني أكبرَ بكثير مما تُبيّنه لنا قواميسُ اللغة العربيّة ، ومن أن تُحيط تصوّراتُنا بهذه الأدلّةِ والمعاني ، ونرى أيضاً أنَّ صياغةَ القرآن الكريم فوق قواعد اللغة العربيّة التي تمّ تقعيدُها من قبل البشر ..
ولمّا كانت المفرداتُ القرآنيّة تُسمّي ماهيّة الأشياء تسميةً مطلقة ، فإنَّ ذلك يقتضي أنّ الأسماءَ القرآنيّةَ التي تُسمِّي تلك الأشياء ،  تتقاربُ في بنيتها اللغويّةِ تقارباً يوازي تقارب الأشياء بخواصّها وصفاتها من منظار علم الله تعالى ..
.. ولذلك يدخل الحرف القرآني في معادلة الوصف كواحدة معنى ، وليس مجرّدَ لبنةٍ صوتيّةٍ في بناء الكلمة .. وأكبر دليلٍ على ذلك هو الحروف النورانيّة في بداية بعض السوَر ، التي منها ما يأتي في آيات كعبارات قرآنيّة مستقلّة ... ولا يُمكن لعاقل أن يتصوَّر أنّها مجرّدُ واحداتٍ صوتيّة دون معنى ، والله تعالى يقول ..
( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) ( هود : 1 ) ..
.. فاللبنة الأولى للمعنى في القرآن الكريم هي الحرف القرآني ، وتأتي الكلمة القرآنيّة وصفاً مطلقاً لماهيّة الموصوف ، من خلال اجتماع معاني الحروف المكوِّنة لهذه الكلمة بترتيب مُعيّن .. فالكلمات التي تتكوّن من الحروف ذاتها ، يعود الاختلاف في ما تحمله من معانٍ إلى الاختلاف في ترتيب الحروف المكوّنة لهذه الكلمات ، مع الأخذ بعين الاعتبار كونَ الحرف ينتمي للجذر اللغوي الذي تفرّعت عنه الكلمة ، أو كونَهُ لا ينتمي إلى هذا الجذر .. وكلُّ ذلك ضمن قوانينَ ونظمٍ مطلقةٍ تنتظمُ بِها واحداتُ المعنى ( الحروف ) ، في صياغةٍ مطلقة صاغها الله تعالى من اللبنات الأولى للمعنى وهي (28) حرفاً قرآنيّاً ، بحيث يتمُّ من خلالِها الوصفُ المطلقُ للأمورِ والأشياء ، وصفاً يحمل مفاتيحَ كلّ شيءٍ في هذا الكون ..
والمفردات القرآنيّة الفطريّة ( بما فيها الحروف كواحدات معنى ) صالحة لتسمية كلِّ ما في الكون ، وذلك من منظار حقيقتها وماهيّتها ، لا من منظار ما نراه من ظاهرها .. فالاختلاف الذي نراه  في ظاهر الأمور والأشياء في هذا الكون  من منظارنا الظاهري ، يختلف عن حقيقة هذه الأمور والأشياء من منظار عالم الأمر المجرّد عن المكان والزمان والذي لا تجتمع فيه المتناقضات ..
فالقرآن الكريم الذي نزل تبياناً لكلِّ شيء يقتضي من جملة ما يقتضيه أن يكون تبياناً لجميع الأسماء الحقِّ في هذا الكون ، والتي تسمّي - من منظار الله تعالى - كلَّ شيء في هذا الكون ..
وحتى نُدرك هذه الحقيقةَ نحتاج لمفاتيحِ أسرارِ القرآن الكريم ، للدخولِ إلى ما وراء الظاهرِ الذي نراه في كلماتِهِ وجمله  ، ونحتاج أيضاً إلى مفاتيح إدراك ماهيّة الأشياء في هذا الكون .. عندها سنرى أنّ الحروفَ القرآنيّةَ والمفرداتِ القرآنيّةَ والجملَ القرآنيّةَ ينطوي تحت ما تصفه وتصوّره كلُّ شيءٍ في هذا الكون .. وفي الآخرة عندما يأتي تأويل القرآن الكريم سنرى هذه الحقيقةَ بأمّ أعيننا ..
.. والمعجزةُ العدديّةُ تُثبتُ هذه الحقيقةَ من خلالٍ بُرهانٍ رياضيٍّ لا يعرفُ الكذب والخداع .. فبإعطاءِ كُلِّ حرفٍ قُرآنيٍّ قيمةً عدديّةً ، هي ذاتُها ترتيبُ مجموعِ ورودِهِ في القرآن الكريم ، وبحسابِ الجُملِ القرآنيّةِ ، بناءً على هذه الأبجديّةِ المُستنبطةِ من كتابِ اللهِ تعالى .. نرى أنَّ توازن المعنى والدلالات بين الجملِ القرآنيّة ، وتكامُلَهُ ، ينعكسُ توازناً وتكاملاً في القيمِ العدديّةِ لتلك الجُمَل ..
.. فلمّا كانَ بناءُ المعنى والدلالاتِ متوازناً مع البناءِ الرقميِّ الذي لبنتُهُ الأولى الحرف ، فإنَّ الحرفَ هو اللبنةُ الأولى في بناءِ المعنى والدلالات .. وهذا لا يكونُ إلاّ إذا كانت المُفرداتُ القرآنيّةُ فطريّةً موحاةً من الله تعالى ، وليست وضعيّةً من صنع البشر ..

ليست هناك تعليقات: