الأربعاء، 15 فبراير 2012

كتابات فى علوم القرآن 3 من 4




المفردات القرآنيـّة لغـة السـماء
بقلم / عدنان الرفاعى 3

وحكمة الله تعالى اقتضت أن يُنزِّل منهجه المُعجِز للبشريّة جمعاء ، والحاملَ لمنهجِ الهداية للبشريّة جمعاء ، بلغة فطريّة أوحاها لأبي البشريّة جمعاء ( آدم عليه السلام ) ، على رسول أُمّي فطري ، يعلم اللغة الفطريّة الموحاة من الله تعالى ، وينتمي إلى مجتمع أُمّي فطري يعلم هذه اللغة الفطريّة ، حتى يكون هذا المنهجُ وهذه المعجزةُ للبشريّة جمعاء التي تفرّعت لُغاتُها عن لغةِ صياغةِ هذا المنهج ..
.. فآدم عليه السلام تعلّم المفرداتِ الفطريّةَ من اللهِ تعالى في عالمِ الأمر ، وهبطَ بِها إلى الأرض كأوّلِ إنسان مُمتحنٍ على هذه الأرض .. ومحمّدٌ ( ص ) نزل عليه قولُ الله تعالى من العالَمِ ذاتِهِ ( عالم الأمر ) كآخرِ رسولٍ على وجه الأرض .. فالمسألةُ بدأت بآدمَ عليه السلام واكتملتٍ بمحمّدٍ ( ص )  ، لتشملَ البشريّةَ جمعاء ، عبرَ منهجٍ ومعجزةٍ للبشريّةِ جمعاء ..
.. فرسولُ البشريّةِ جمعاء لسانُهُ ولغتُهُ لسانٌ ولغةٌ تجمعُ البشريّةَ جمعاءَ قبل تفرّعِ لغاتِها المختلفةِ عن اللغة الفطريّة الأم التي نزل بها القرآن الكريم .. وبالتالي فإنّ تعلّم لغة القرآن الكريم لإدراك دلالاته ، هو في الحقيقة عودةٌ للغةِ الفطريّةِ الأم ، وعودةٌ إلى التسمياتِ الحق التي علّمها الله تعالى لآدم عليه السلام ..
قد يبدوا هذا الكلام ضرباً من الخيال بالنسبة لبعضهم .. لكنّنا نقولُ لمن يُؤمن بالقرآن الكريم ويرى كلامَنا هذا ضرباً من الخيال ..... هل يُعقل أنَّ الله تعالى يُفرِغ معانيه وأحكامَه وأدلّتَه ( كلامه ) في قوالبَ لغويّةٍ من وضع البشر لا يرون أمامهم أكثر من بضع كيلو مترات ، ثمّ يقول عن تلك القوالبِ اللغويّةِ إنّها قولي الذي أتحدّى الإنس والجن أن يصيغوا مثله ، وإنّها قولي الذي يحوي مفاتيح أسرار الكون ، وإنّها تِبيانٌ لكلِّ شيءٍ في هذا الكون ، وإنّها تحمل عُمقاً من التأويل لا يعلمه إلاّ الله تعالى ؟  .. فهل يُعقلُ أنْ تحملَ أوعيةٌ محدودةٌ بإدراكِ البشرِ ، دلالاتٍ غيرَ متناهيةٍ ومتناسبةً مع علمِ الله تعالى ؟ ..
.. وهذه الصفةُ التي يتَّصفُ بِها القرآنُ الكريمُ ، بأنّ كلماتِه فطريّةٌ موحاةٌ من الله تعالى ومصوغةٌ صياغةً مُطلقة تحمل كلّ أسرار الكون .. هذه الصفة بيّنها الله تعالى في كتابه الكريم ..
( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )  ( يوسف : 2 ) ..
فالكلمتان ( قُرْآناً عَرَبِيّاً ) تعنيان بإطارهما العام ، قرآناً كاملاً شاملاً تامّاً مفصّلاً لا عوج فيه وخالياً من أيِّ عيب أو نقص ، ومعناهما ليس محصوراً بإطار التفسير المعروف - تقليديّاً - بأنّه قرآنٌ بلغةِ قومِ العرب ... هو قرآنٌ بلغة قوم العرب ، ولكنّ هذا المعنى يأتي من جملة المعاني المُرادة ، لأنّ لغةَ قومِ العرب تحمل المفردات القرآنيّة الفطريّة الموحاة من الله تعالى كما رأينا .. ودليلنا في هذا المذهب من التفسير هو الآتي :
1 - قولُه تعالى ( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) في نهاية الآية الكريمة ، هو خطاب للبشريّة جمعاء ، وليس خطاباً خاصّاً بالعرب دون غيرهم ، لأنَّ القرآن الكريم أنزله الله تعالى لجميع البشر وليس للعرب وحدهم ..
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ) ( النساء : 174 ) ..
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )  ( سـبأ : 28 ) ..
وإنَّ الجزمَ بإنّ الكلمتين ( قُرْآناً عَرَبِيّاً ) لا تعنيان إلاّ قرآناً بلغة قوم العرب ، يقتضي أنّ نهاية الآية الكريمة ( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )  خطابٌ موجّهٌ حصراً للعرب .. وهذا يتعارض مع حقيقة القرآن الكريم كونَهُ كتاباً للبشريّة جمعاء ..
2 - ودليلٌ آخر على أنّ كلمة ( عرب ) تعني التمام والكمال والخلو من العيب والنقص ، هو قول الله تعالى : ( إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً )  ( الواقعة : 37 ) ..
فكلمةُ ( عُرُباً ) مشتقّةٌ من الجذر ( ع ر ب ) ، ولا تخرج في معناها عن إطار المعنى الذي يحمله هذا الجذر ، ونرى أنّها لا يمكن أن تعني أنَّ أُولئك اللاتي سينشِئَهنّ اللهُ تعالى في الآخرة لأصحابِ اليمين ينتمين إلى قوميّة مُحدّدة .. فالأَولى بمعيار القرآن الكريم عقلاً ومنطقاً أن يكون معنى كلمة ( عُرُباً ) هو أنّ اللاتي سينشئهنّ الله تعالى في الآخرة ، كاملاتٌ تامّاتٌ خالياتٌ من أيِّ عيب أو نقص ..
3 - ومن متعلّقات القرآن الكريم كونَهُ عربيّاً أنّه غيرُ ذي عوج ..
( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) ( الزمر : 28 ) ..
4 - والقرآن الكريم عربي لأنّه فُصّلت آياته تفصيلاً كاملاً لكلِّ عالمٍ ومتعلّمٍ يريد أن ينهل من علومه ..
( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )  (  فصلت : 3 ) ..
5 - والله تعالى أنزل القرآن الكريم حال كونه حُكماً تامّاً كاملاً لا عيب فيه ولا نقص ..
(  وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً  )  ( الرعد : 37  ) ..
..فالحكم مسألة مُجرّدة تماماً عن اللغة من حيث خصوصيّتها القوميّة ، وبالتالي نرى أنَّ كلمة ( عَرَبِيّاً ) تُبيّن لنا وجهَ الكمال والتمام والخلوِّ من أيِّ عيب أو نقص في الحكم الذي أنزله الله تعالى ..
6 - ومن خصائص إنزال القرآن الكريم أنّه أُنزل بلغةٍ و أسلوبٍ وتِبيان ( لسان ) ، بحيث يتّصف بالكمال والتمام والخلو من أيّ عيب أو نقص .. وليس بلغة  وأسلوب وتبيان كتبيان البشر الذي لا بُدّ وأن يحمل العيب والنقص ، لأنّ علم البشر - مقارنة مع علم الله تعالى - علمٌ ناقصٌ ..
( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) ( النحل : 103 )  ..
( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ  (193)  عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ  (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ  )  ( الشعراء : 195 ) ..
( وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ) ( الأحقاف :  من الآية12  .. ففي الآية الأخيرة نرى أنّ الذين يُنذرُهم القرآن الكريم ( الَّذِينَ ظَلَمُوا ) ، والذين يُبشّرهم القرآن الكريم ( لِلْمُحْسِنِينَ ) ، موجودون في كلِّ الأمم ، وليسوا حصراً على قومٍ مُحدّدين ( قوم العرب ) .. ولذلك فالكلمتان  ( لِسَاناً عَرَبِيّاً ) تعنيان لغةً وأسلوباً وتِبياتاً كاملاّ تامّاً خالياً من أيِّ عيب أو نقص ..
فاللسان هو آليّة اللغة وأُسلوبُ المخاطبة ووسيلة التبيان ..
( وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ) ( مريم : 50 ) ..
وحكمة الله تعالى تقتضي أن يُرسل كُلَّ رسولٍ بلغة قومه وبأسلوبهم وبطريقة تبيانهم ، حتى يُبيّن لهم المنهجُ الذي يحمله ..
( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) ( إبراهيم  :  4 )  ..
.. ولذلك فجميع الرسالات السابقة نزلت ( صياغة ) بلغات البشر الوضعيّة ، لأنها تحمل مناهج لأقوامٍ مُحدّدين في أزمنة مُحدّدة ، وبالتالي لم تكن قولَ الله تعالى ، إنّما كانت فقط كلامَ الله تعالى .. بينما نرى أنَّ منهج البشريّة جمعاء ( القرآن الكريم ) نزل قولاً مُنَزَّلاً من عند الله تعالى ، بلغةٍ فطريّة نطق بها أبو البشريّة جمعاء ( آدم عليه السلام ) ، في العالمين ( عالم الأمر وعالم الخلق ) ..
فمنهج البشريّة جمعاء لا بُدّ أن يكون بلسانٍ فطريٍّ يجمع البشريّة جمعاء ، وبلغة فطريّة هي اللغة الأولى التي عرفتها البشريّة .. وهذا لم يتوفّر إلاّ باللغة الفطريّة التي حافظ عليها الأميّون ( لغة ) منذُ آدمَ عليه السلام إلى مبعثِ مُحمّد ( ص ) ..
ومن مشتقّات الجذر ( ع ر ب ) كلمةُ الأعراب والتي تصوِّر لنا البشر الذين يتظاهرون بالكمال والتمام ولا يعترفون بعيوبهم ، فهمزة التعدّي تُبيّن لنا  - إضافة لما يبيّنه لنا القرآن الكريم من صفات الأعراب -  أنّهم يتعدّون على صفة الكمال والتمام والخلو من العيب والنقص ، هذه الصفة التي لا يتّصفون بها ..
ولمّا كان البشر في الحياة الدنيا لا يُمكن أن يصلوا إلى مرتبة الكمال والتمام والخلو من أيِّ عيب أو نقص ، فإنّنا نرى أنّ الكلمات ( عربيٌّ )  ، ( عربيٍّ ) ،  ( عربيّاً )  ،  ( عُرُباً ) ، وهي باقي مشتقات الجذر ( ع ر ب ) في القرآن الكريم ، تأتي في القرآن الكريم لتصوِّر لنا صفاتِ كتابِ الله تعالى ، واللاتي سيُنشئهنّ الله تعالى في الآخرة لأصحاب اليمين ، ولا تأتي هذه الكلمات أبداً لتصوِّر لنا البشر في الحياة الدنيا .. بينما تأتي كلمة الأعراب التي تُصوِّر لنا التعدّي على ما يحمله الجذر ( ع ، ر ، ب ) من معانٍ ودلالات ، صفةً للذين يتظاهرون بالكمال والخلو من العيوب والنواقص ..
والجزم بتفسير كلمة الأعراب في معظمِ كُتبِ التفسير ،  بأنّها لا تعني إلاّ البدو ( سكان البادية ) ، يتعارض تماماً مع روح القرآن الكريم ، الذي يصف البشر ويُقيّمهم حسب انتماءاتهم العقيديّة ، لا حسب انتماءاتهم الجغرافيّة والإقليميّة ..
.. فلو كانت كلمة الأعراب لا تعني إلاّ البدو ( سكان البادية ) ، لاستُبدلت - في كتاب الله تعالى - بكلمة البدو ، فكلمة البدو كلمة قرآنيّة ، وفي القرآن الكريم لا تُوجَد كلمة مُرادفة لكلمة أُخرى بالمعنى الذي يتصوّره بعض البشر ..

ليست هناك تعليقات: